للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)]

أما ما اقترحتم من أن نتكلم على شيء من الآيات التي مرت علينا فأهم شيء قوله تعالى، بل هو من أهم شيء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١] فإن هذه الآية موجهة لكل مؤمن أن يوفي بالعهد الذي بينه وبين عباد الله، سواء كانوا كفاراً أو مسلمين، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:٣٤] فيدخل في ذلك: عقود المبايعات: يجب أن نفي بها، فلا يجوز أن نفسد البيع بعد انعقاده انعقاداً لازماً؛ لأن بعض الناس -والعياذ بالله- إذا رأى أنه مغبون في السلعة ذهب يماطل ويدعي أن فيها عيباً من أجل أن يفسخ العقد، وهذا حرام.

ومن الوفاء بالعقود: الوفاء بالشروط المقرونة بالعقود؛ لأن الشروط المقرونة بالعقود أوصاف للعقود، والأمر بالوفاء بالعقود يشمل الأمر بها ذاتها والأمر بما تتضمنه من أوصاف، فيجب على الإنسان أن يوفي بالشرط الذي التزمه عند العقد.

ومن ذلك: ما يكون بين الموظفين وبين الدولة من الشروط فإنه يجب علينا أن نوفي بها، فلا نتخلف عن موعد الحضور، ولا نتقدم على موعد النهاية، كذلك لا يجوز أن نذهب إلى العمرة وندع الوظيفة، ولا يجوز أن نذهب إلى المساجد إلى الاعتكاف وندع الوظيفة؛ لأن البقاء في الوظيفة فرض، الوظيفة عقد بين الموظف وبين الدولة وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فإذا كانت الدولة لا تسمح أن يذهب الإنسان إلى عمرة أو أن ينحصر في مسجد فإنه لا يجوز أن يذهب إلى عمرة ولا أن ينحصر في مسجد، وما يسمى بالإجازة الاضطرارية فهي على اسمها إجازة اضطرارية؛ إن اضطر الموظف إليها فله الرخص، وإن لم يضطر فلا، ولننظر هل الذهاب إلى العمرة يعتبر ضرورة؟ لا، ليس ضرورة حسية، ولا ضرورة شرعية، بل هي نفل من النوافل، والقيام بواجب الوظيفة واجب، فكيف نسقط الواجب من أجل فعل مستحب؟!! ثم إن هذا الواجب قد رتب عليه مكافئة من الدولة، المكافئة تقابل جزءاً من زمن الخدمة، فإذا أهملت أجزاءً فإن هذا يعني أن الأجرة ينقص منها بقدر ما أهملت وهذا أمر خطير جداً، لأن هؤلاء الذين يدعون وظائفهم كل ساعة تمر عليهم فإنهم بها آثمون والعياذ بالله، وقد يتحيل بعض الناس فيقدم إلى مكتب العمل والعمال بأنه في ضرورة فيرجو الإجازة، ويذكر أنه ممرض لأبيه أو لابنته أو لابنه وهو كاذب في هذا، هذا حرام ولا يجوز؛ لأن التحيل على إسقاط الواجب لا يسقطه، بل لا يزيده إلا تأكيداً، والإنسان الذي يتحيل على إسقاط ما وجب الله لا شك أنه متحيل وأنه يخشى أن يقلب قلبه والعياذ بالله.

ومن ذلك أيضاً: أن من المعروف أن الموظف لا يشتغل بالتجارة، بل إما أن يبقى على وظيفته ويدع التجارة، وإما أن يأخذ بالتجارة ويدع الوظيفة، أما الجمع بينهما فالمعروف أن هذا ممنوع، لكن يأتي واحد يتحيل يكتب الدكان باسم أحد من أولاده أو آبائه وهو في الحقيقة له، هذا يعتبر خيانة وأكل للمال بالباطل، ولا يحل للإنسان أن يخادع الدولة التي اشترطت عليه أنه لا يتاجر.

فإن قال قائل: هل المضاربة تدخل في هذا؟ ف

الجواب

المعروف أن المضاربة يكون العامل فيها هو العامل هذا هو المعروف، فإذا أعطى الشخص الموظف شيئاً من ماله لآخر ليعمل فيه والربح بينهما، فالظاهر أن هذا لا يدخل في المنع، لا بأس به، لماذا؟ لأن هذا الرجل الموظف لم يباشر العمل، من الذي يباشره؟ العامل المضارب، أما إذا تولى هو شيئاً من العمل فإنه يدخل في المنع، وعلى الإنسان أن يوفي بكل عقد إذا لم يكن محرماً.

من العقود أو من أوصاف العقود: أن يشترط على المشتري بأن السلعة فيها كل عيب، فهل هذا الشرط صحيح؟ نقول: فيه التفصيل: إذا كان البائع لا يعلم العيوب التي فيها فلا بأس أن يشترط شرطاً عاماً فيقول: أنا بريء من كل عيب فيها، أما إذا كان يعلم بأن فيها العيب الفلاني فإنه يجب عليه أن يبين وإلا كان غاشاً، وقد بلغنا أن معارض السيارات إذا باعوا سيارة على الميكرفون كما يقولون: فإنهم يقولون: للمشتري فيها كل عيب، لا تشتري إلا إطار العجلات، لا تشتري إلا المفتاح، وما أشبه ذلك من الأشياء التي يوهمون فيها المشتري ويغرونه.

فالمهم خلاصة هذه المسألة: أن البائع إذا كان يعلم العيب فإنه يجب عليه أن يبينه نصاً بعينه، وإذا كان لا يعلمه فلا بأس أن يبرأ على سبيل العموم.

وهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} من أجمع الآيات، ولهذا تأتي هذه الآية على جميع أبواب المعاملات من البيوع والإيجارات والرهون وغيرها، وكذلك أيضاً تأتي على جميع الشروط التي تشترط في عقود الأنكحة والأوقاف وغيرها، فهي من أجمع الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .

<<  <  ج: ص:  >  >>