[معاملة النبي عليه الصلاة والسلام للعصاة]
أود أن أذكر أحبابي وإخواني بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الرحمة مع المذنبين والعصاة، وأنا أسأل: لو أن طبيباً فتح عيادة خاصة، وأنفق عليها وأعدها وهيأها، وفي أول يوم بدأت فيه العيادة في العمل دخل إليها المرضى، فهل يمكن لهذا الطبيب أن يطرد هؤلاء؛ لأنهم أتوه وهم مرضى وهو لم يفتح عيادته إلا للمرضى؟! فالرجل العاصي والمذنب مريض يحتاج إلى صدر حنون، ويحتاج إلى قلب واسع ليذكِّره بالله تعالى، فنحن نبغض المعاصي ونبغص الذنوب، لكن يجب علينا أن نفتح قلوبنا للمذنبين والعصاة؛ لنذكرهم بالله، ولنأخذ بأيديهم إلى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مَن مِن البشر لم يذنب؟ ومَن مِن الخلق لم يخطئ؟ لقد انتهى زمن العصمة بموت الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، والله جل وعلا وهو الرحيم الكريم خالق الخلق يفرح إذا عاد عبده إليه بالتوبة والأوبة، فلماذا ننظر إلى العصاة هذه النظرة؟ ولماذا نحكم عليهم ونتعجل بتكفيرهم وتفسيقهم وتبديعهم؟ حتى إن بعضهم يقول: فلان في جهنم، وفلان في الدرك الأسفل من النار، وأقول: يا أخي! أنت ما جلست على باب جهنم ولا على باب الجنة؛ لتدخل من أردت وتمنع من شئت، وإنما هذا الأمر لله وحده، ولا يستطيع أحد ألبتة أن يحكم لأحد بجنة أو أن يحكم لأحد بنار.
ونحن نبغض المعصية يقيناً، لكن يجب علينا أن نفتح طريق الأمل وباب التوبة الذي فتحه ربنا وفتحه نبينا صلى الله عليه وسلم للمذنبين والعصاة من أمثالي.
فهذا صحابي ارتكب كبيرة الزنا -وهي أكبر كبيرة بعد الشرك والقتل- فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح مسلم، واسم هذا الرجل ماعز بن مالك - فقال: يا رسول الله! طهرني، يا رسول الله! طهرني، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: أغلقوا الأبواب.
اقبضوا عليه امسكوه، لم يقل شيئاً من ذلك، وهو المشرع صلى الله عليه وسلم، وذهب الرجل إليه معترفاً، والاعتراف سيد الأدلة.
اسمع ماذا قال الحبيب الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والرءوف الرحيم بالمؤمنين: (ويحك! ارجع استغفر الله، وتب إليه) فيرجع ماعز بن مالك، لكن قلبه يتحرك فيه الإيمان، فيحرك القلب الجوارح، فيرجع ماعز بن مالك إلى النبي ويقول: يا رسول الله! طهرني للمرة الثانية؛ فيرد عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (ويحك! ارجع استغفر الله، وتب إليه) فيرجع ماعز بن مالك، لكن الإيمان في قلبه يحركه، وحبه لله وخوفه من الله يحركه؛ فيأتي ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! طهرني -للمرة الثالثة- فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك! ارجع استغفر الله، وتب إليه، فيقول له: يا رسول الله! طهرني وأخبره بأنه زنى) ومع كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل شرب خمراً؟) ، أي: هل شرب خمراً فلعبت الخمر برأسه، فلا يعي ما يقول؟ (فقام أحد الصحابة فاستنكهه -أي: شم نكهة ورائحة فمه- فقال: لا يا رسول الله! لم يشرب الخمر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أبه جنون؟ قالوا: لا يا رسول الله! لا نعرف عنه جنوناً؛ فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فرجم، ثم بعد ثلاثة أيام يقول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- للصحابة رضوان الله عليهم: استغفروا لأخيكم ماعز بن مالك) ، ولم يخرجه من دائرة الأخوة، ويأمر الصحابة أن يستغفروا له، وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد تاب إلى الله توبة لو قسمت بين سبعين رجلاً لوسعتهم، أو لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم) مع أنه ارتكب جريمة الزنا؛ لكنه جاء تائباً مقبلاً إلى الله.
إذاً: لا نكفر أحداً بالكبائر فهذا من فعل الخوارج، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب أو بكبيرة؛ لأن الله جل وعلا يغفر كل الذنوب ما دام العبد يوحد علام الغيوب، اقرأ معي قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] ، وقال جل وعلا في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٦٨-٧٠] ، فالله جل وعلا يبدل الذنوب والسيئات حسنات، فلماذا نتعامل مع الناس بهذه القسوة؟ وسبحان الله! لماذا عند ما أرى إنساناً وقع في معصية أفرح أنه وقع في المعصية؟!! لماذا أعامله بهذه الغلظة والقسوة؟! ولو أنك تحمل في قلبك شيئاً من الرحمة ونظرت إلى هذا الرجل على المعصية؛ لبكت عينك، وارتجف قلبك لأمرين: الأول: أن الله جل وعلا قد سترك، وحفظك، ووفقك، ولم يدعك تقع في هذه المعصية، فالفضل فضله، والستر ستره.
الأمر الثاني: أنك تخشى على أخيك وعلى نفسك، تخشى على أخيك إن خُتم له، وهو على هذه المعصية أن يكون من أهل النار والعياذ بالله! وتخشى أيضاً على نفسك أن يختم لك بغير الطاعة.
فالإنسان سائر إلى الله بين أمرين: بين مطالعة المنة، ومطالعة فضل الله وستره وحلمه عليه، وبين مطالعة عيب النفس، فكل ما أنا فيه من خير إنما هو محض فضل الله، وكل ما أنا فيه من شر إنما هو من النفس الأمارة بالسوء، فالنفس مجبولة على السوء: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:٥٣] ، فإذا نظرت إلى هذا فتذكر ما كنت فيه أنت، وتذكر ستر الله عليك، وحلم وفضله عليك، واقترب من أخيك العاصي فذكّره بالله وذكره برسول الله برحمة وأدب وتواضع وحب لله وخوف من مكر الله جل وعلا؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
وتصور معي هذا الشاب الذي تجري دماء الشهوة في عروقه -والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده بسند جيد- يأتي إلى الرسول الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم ويقول له: (يا رسول الله! ائذن لي في الزنا -يا سبحان الله! يستأذن النبي أن يأذن له في الزنا- فقال الصحابة: مه مه؟ -أي: ماذا تقول؟ - فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ادن، فاقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وبلغه الأبوة الحانية، والأبوة الرحيمة الرءوفة- قال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: أترضاه لأمك؟ -أي: أترضى الزنا لأمك؟ -قال: لا، والله يا رسول الله جعلني الله فداك.
قال: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم.
أترضاه لأختك؟ قال: لا، والله يا رسول الله جعلني الله فداك.
قال: وكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم.
أترضاه لعمتك؟ أترضاه لخالتك؟ والشاب يقول: لا.
والله يا رسول الله! جعلني الله فداك.
والمعلم صلى الله عليه وسلم يقول: وكذلك الناس لا يرضونه لخالاتهم وعماتهم ويمد الحبيب صلى الله عليه وسلم يده المباركة الشريفة؛ ليضعها على صدر هذا الشاب وهو يتضرع إلى الله جل وعلا بالدعاء لهذا الشاب فيقول: اللهم اغفر ذنبه، واشرح صدره، وحصن فرجه، فيخرج هذا الشاب -من المدرسة المحمدية المباركة- ولا يوجد على وجه الأرض شيء أبغض إليه من الزنا) .
إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام يفتح الباب للعصاة والمذنبين من أمثالي.
فلو نظر كل واحد إلى نفسه لعلم يقيناً أن بيته من الزجاج، وما منا أحد وإلا فيه عيب، بل عيوب وذنوب، وسبحان علام الغيوب! الذي يرى عباده على الذنوب ويسترهم، فلا ينبغي على الإطلاق أن نحمل قلوباً في صدورنا قاسية.
يا أخي! قد أزل أنا في لحظة وأنا بشر، ولست نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً، فإن زل العبد فلبشريته وضعفه، وإن كان من أهل الصلاح وجب على المسلمين أن يستروا عليه، وأن يذكروه بالله تبارك وتعالى، أما الفاجر الذي يجاهر بمعصيته، ويفرح ويفتخر بها، ويختال بها، وإن ذكر بالله لا يتذكر فلا حرج أن تبكته بما فيه؛ كي يحذره الناس، هذا هو التأصيل العلمي، لكن إن وجدت رجلاً من إخوانك على معصية فذكره بالله، وكذلك إن وجدتِ أختاً من أخواتكِ على معصية فذكريها بالله تبارك وتعالى، وذكريها بالحجاب، وذكريها بالصلاة، بحكمة ورحمة وأدب وتواضع، كما علمنا نبينا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.