للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أدب الصحابة مع رسول الله]

كيف كان الصحابة يتعاملون مع حبيب الله جل جلاله؟ كيف كانوا يتعاملون مع أكرم نفس خلقها ربنا تبارك وتعالى؟ قال ابن عباس: ما خلق الله نفساً وما برأ نفساً هي أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، من أجل ذلك ترى القرآن يعلم الصحابة كيف يخاطبون رسول الله؟ كيف يتكلمون معه؟ كيف يتأدبون معه؟ كيف يستأذنونه؟ كيف يدخلون بيته؟ كيف يجلسون عنده؟ إن دل هذا فإنما يدل على أن قدر نبينا عند ربنا عظيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:٢] .

ستعجب وسيعجب إخواني إذا علموا أن هذه الآية الكريمة الجليلة قد نزلت في حق الخيرين الجليلين الكبيرين العظيمين أبي بكر وعمر، والدليل ما رواه البخاري عن ابن أبي مليكة قال: (كاد الخيران أن يهلكا) ، لارتفاع أصواتهما في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما أقبل على النبي وفد بني تميم في عام الوفود، وكان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر والصحابة رضوان الله عليهم، فأراد الصديق أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم على وفد بني تميم أميراً، وأراد عمر بن الخطاب أن يختار النبي على وفد بني تميم أميراً آخر.

فقال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أمر عليهم القعقاع بن معبد) .

وقال عمر رضوان الله عليه: (لا يا رسول الله! بل أمر عليهم الأقرع بن حابس) ، فالتفت الصديق إلى عمر، وقال له: ما أردت إلا خلافي يا عمر! فالتفت عمر إلى الصديق وقال: والله ما أردت خلافك يا أبا بكر! هذا هو الحوار كله دون زيادة أو نقصان، فأنزل الله الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:٢] .

قال الصديق رضوان الله عليه بعدما سمعها: (والله لقد آليت على نفسي يا رسول الله! ألا أكلمك بعد اليوم إلا كأخي السرار) أي: كمن يكلم آخر بسر لا يسمعه من بجواره، أما عمر فقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يكلم عمر بعد ذلك حتى يستفهمه لانخفاض صوت عمر.

انظر إلى الأدب! وانظر إلى الإجلال والتوقير من الصحابة رضوان الله عليهم للبشير النذير صلى الله عليه وسلم.

وهناك صحابي آخر -وحديثه في الصحيحين- اسمه ثابت بن قيس رضوان الله عليه، ظن أن هذه الآية نزلت فيه! وكان ثابت بن قيس لا يسمع إلا بصعوبة، ومن المعلوم أن من يسمع بعسر يرفع صوته، ويخيل إليه أنه لا يسمع الآخرين إلا بنفس ما يريد أن يسمعوه به، فكان يرفع صوته، فحبس نفسه في البيت اختياراً، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين ثابت بن قيس؟ قالوا: يا رسول الله! نأتيك بخبره، وذهب أحد الصحابة إليه فأخبره، فقال: لقد حبط عملي، وحبط جهادي، وهذه الآيات قد نزلت فيّ؛ لأنني أرفع صوتي على رسول الله، فعاد هذا الصحابي الجليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قال ثابت، فقال له النبي: (لا، بل ارجع إليه وقل له: لست منهم) ، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، (قل له: يقول لك رسول الله: أنت لست منهم، ويبشرك رسول الله بالجنة) .

بل ستعجب -أخي الحبيب- إذا علمت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يجيبون على النبي صلى الله عليه وسلم بما يعرفون خشية أن يخطئوا! ففي حجة الوداع سأل النبي الصحابة وهم في منى -والحديث رواه البخاري ومسلم - فقال لهم: (أيَّ يوم هذا؟ فقال الصحابة: الله ورسوله أعلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى أي: نحن نعرف ذلك- لكن خشوا أن يجيبوا فيخطئوا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، قال عليه الصلاة والسلام: أيُّ بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس البلد الحرام؟ قالوا: بلى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، إنه الأدب الجم من أصحاب رسول الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم! روى الإمام البخاري رحمه الله عن السائب بن يزيد رضي الله عنه أنه قال: كنت في المسجد -أي: المسجد النبوي- فحصبني رجل بحصاة -يعني رماني بحصاة في المسجد النبوي- قال: فنظرت فرأيت عمر بن الخطاب، فأشار إليّ فذهبت إليه، فقال عمر للسائب بن يزيد: ائتني بهذين الرجلين، وأشار له عمر على رجلين، فذهب السائب بن يزيد وطلب من الرجلين أن يحضرا إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه، فسألهما عمر بن الخطاب وقال: من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: والله لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، أترفعان الصوت في مسجد رسول الله؟! لا ينبغي على الإطلاق أن يظن أحد أن رسول الله بعد موته لا يرد صلاتنا عليه وسلامنا، لا كما سأبين ذلك إن شاء الله تعالى في اللقاء المقبل بإذنه جل جلاله، بل لا ينبغي لأحد أن يرفع الصوت أو أن يسيء الأدب أو أن يجهل في المسجد النبوي بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لا يليق بأحد يحب الله ويحب الصادق رسول الله، فالتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته واجب، والتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته واجب، بل ومع سنته: مع قوله، مع فعله، مع أمره، مع نهيه، مع حده.

أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا التأدب مع نبينا وحبيبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>