[جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق]
ولما تولى الخلافة من بعده صلى الله عليه وسلم -وهي المرحلة الثانية- أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقامت جيوش أهل الردة تريد أن تدمر الأخضر واليابس، وجيَّش الصديق رضوان الله عليه لقتال أهل الردة جيوشاً؛ شاء الله سبحانه وتعالى في أخطر هذه المعارك على الإطلاق، ألا وهي معركة اليمامة في العام الثاني عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كانت بين المسلمين وبين الكذاب مسيلمة؛ أن يقتل في معركة اليمامة عدد كبير جداً من القراء، أي: ممن كانوا يحفظون كتاب الله سبحانه وتعالى.
وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فزعاً إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: (يا خليفة رسول الله! أدرك كتاب الله عز وجل، اجمع القرآن؛ فلقد قتل جمع كبير من القراء، وأخشى أن يضيع القرآن) ، فتردد الصديق؛ لأن الصديق رضوان الله عليه كان أشد الناس اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟! كيف أجمع القرآن في صحف واحدة؟ عمر بن الخطاب ذلكم الرجل الملهم، الذي آتاه الله بصيرة، بل هو الذي وافق الله سبحانه وتعالى في كثير من آيات القرآن.
ونزل القرآن موافقاً لقول عمر لا لرأيه، بل لقوله بتمامه، فمثلاً: قال عمر بن الخطاب يوماً: يا رسول الله! فلنتخذ من مقام إبراهيم مصلى؛ فنزل قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:١٢٥] .
والشاهد أنه حتى بنفس الكلمات التي يقولها عمر رضوان الله عليه تتنزل آيات القرآن الكريم، فأشار عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا خليفة رسول الله! اجمع القرآن.
لكنه تردد قال الصديق: فظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراجعني حتى شرح الله صدري لما شرح له صدر عمر.
والحديث في صحيح البخاري.
فأرسل أبو بكر رضي الله عنه إلى كاتب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه.
اسمع ماذا قال الصديق لـ زيد، قال: (يا زيد! إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك) ، انظر إلى هذا التعبير: (إنك رجل شاب) هو شاب، لكنه قدم صفة الرجولة، ليعلم شبابنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الشباب، والصديق حينما أسلم كان في الثامنة والثلاثين من عمره؛ لأن الرسول أوحي إليه في الأربعين، أما عمر بن الخطاب والأرقم بن أبي الأرقم وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وغيرهم فقد كانوا في ريعان الشباب، لكنهم كانوا رجالاً.
فـ الصديق يقول لـ زيد: (يا زيد (إنك رجل) ؛ هذه واحدة، (شاب عاقل لا نتهمك) ، أي: أنت عندنا عدل ثقة، (فتتبع القرآن فاجمعه) .
وانظر إلى هذا الرجل الذي يعرف قدر المسئولية وثقل الأمانة، قال زيد رضوان الله عليه: (والله لو كلفوني نقل جبل لكان أيسر علي مما كلفوني به من جمع القرآن) أمانة ثقيلة لا يعرف قدرها إلا الرجال، ولكن: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام وبدأ زيد بن ثابت رضوان الله عليه في جمع القرآن الكريم من العسب -جمع عسيب، وهو جريد النخل- واللخاف وصدور الرجال، ومن المواضع التي وجدت عليها آيات القرآن الكريم في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، وجمع القرآن الكريم كله في صحف، وهذه هي المرحلة الثانية.
ثم انتقلت الصحف إلى أبي بكر رضي الله عنه، إلى أن توفي الصديق، فانتقلت الصحف إلى بيت الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظلت الصحف في بيت عمر، ثم توفي عمر رضي الله عنه، فانتقلت الصحف بهيئتها وحالتها إلى بيت حفصة زوج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنة سيدنا عمر رضي الله عنهما.