إذا علمت هذا فإن هذا الجزء من القاعدة ليس بمطلق وإنما هو مقيد بحالة الضرورة فقط أي أنه يجوز تناول الحرام بالقدر الذي تندفع به الضرورة فإذا زالت الضرورة عاد الحكم إلى ما كان عليه ولذلك قال العلماء:(الضرورة تقدر بقدرها) فالحرام جاز لعلة وهي الضرورة والحكم مناط بعلة ينتفي بانتفائها، فإذا زالت العلة التي هي الضرورة زال الجواز وعاد الحكم إلى الحرمة.
ثم اعلم: أن الإنسان إذا اضطر إلى ارتكاب المحرم من أجل الضرورة لإنقاذ نفسه أو طرفٍ من أطرافه ولكنه لم يفعل ومات فإنه يموت عاصيًا آثمًا، لأن حفظ نفسه وأطرافه واجب عليه، ففعل المحرم حال الاضطرار ليس من الرخص المستحبة وإنما هو من الرخص الواجبة فهو عزيمة لا يجوز تركه.
ثم اعلم: أن الإنسان إذا ارتكب المحرم للضرورة ولكنه زاد عن حدها أي فعل ما تندفع به ضرورته وزاد، فهل يأثم على الجميع أو لا يأثم إلا على القدر الزائد فقط؟
فيه خلاف في المذهب، والراجح منه أنه راجع إلى نيته إن كان لا ينوي بارتكاب المحرم إلا دفع الضرورة ثم زاد على ذلك فإنه لا يأثم إلا على الزائد فقط، وإن كان ينوي به التلذذ أو الاستمتاع فإنه يأثم على الجميع، ذلك لأن الله تعالى قال:{فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} فقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} أي غير مريد لارتكاب المحرم وإنما اضطرته ضرورته وإلا فهو لا يبغي ارتكابه، وقوله:{وَلا عَادٍ} أي غير متعدٍ لحد الضرورة، وقوله:{فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} أي بهذين الوصفين، والحكم المعلق بوصفٍ يثبت بثبوته وينتفي بزواله، فنقول: من زاد على المحرم إن كان غير باغ له فإنه يأثم على الزيادة فقط لأنه تعدى حد الضرورة، وإن كان باغياً للمحرم ومتعدياً لحد الضرورة فإنه يأثم مرتين على إرادة الحرام تلذذًا، وعلى تعدي حد الضرورة.