للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بين الشكاك والحسيين منذ عهد قديم من أن قواعد القياس ليست هي التي تعلم الاستدلال، وأن القياس لا يفيد في كشف الخطأ في الحجج ولا في زيادة معارفنا. فلم يميز لوك بين المنطق الفطري الموفور للناس وبين المنطق العلمي الذي وضعه أرسطو، ولم يميز بين العلم الناقص الصادر عن المنطق الفطري وبين العلم الكامل المحقق بقواعد المنطق العلمي، ولم يدرك حقيقة القياس، وفاتته أمور أخرى كثيرة، وهو مع ذلك يجزم فيها جميعًا.

٥٩ - أصل المعاني:

أ- أول ما يصنع لوك في كتابه "محاولة في الفهم الإنساني" هو أنه ينحي المذهب الغريزي من طريقه لكي يعرض المذهب الحسي أو التجريبي. وهو يظن أن الغريزية تعني وجود معان صريحة وقضايا صريحة في الذهن منذ الميلاد، ولم يقل ديكارت وليبنتز شيئًا مثل هذا؛ وهو يظن كذلك أن الغريزية تدع مجالًا واسعًا للتقدير الشخصي ما دامت معرفة باطنة، فلا يريد أن يتركها تعبث بنظرية المعرفة وتنكر وجود الله، وهما الأمران الضروريان لاتفاق العقول وطمأنينتها، ومع أن ديكارت وليبنتز كانا يعلمان الفرق بين الذاتي والموضوعي، وكان كلاهما يقيم مذهبه على وجود الله، غير أن لوك يصيب الحق في المعرفة الإنسانية حين يقول: "لكي نحصل على معرفة صادقة يجب أن نسوق الفكر إلى الطبيعة الثابتة للأشياء وعلاقاتها الدائمة، لا أن نأتي بالأشياء إلى فكرنا". وتبعًا لهذا المبدأ يعتقد أن المذهب الحسي هو المذهب الوحيد الممكن، ويشرع في دحض النظرية الغريزية فيقول ما خلاصته:

ب- لو كان المذهب الغريزي صحيحًا لما كان هناك حاجة للبحث عن الحقيقة بالملاحظة والاختبار. إن ديكارت متفق مع مذهبه الغريزي حين "يغمض عينيه ويسد أذنيه" ويستبعد كل ما يأتي عن طريق الحواس، ولكنه يخالف مذهبه حين يعكف على دراسة التشريح ووظائف الأعضاء. ولو كانت المبادئ التي يذكرونها غريزة للزم أن توجد عند جميع الناس دائمًا, ولكن الأقلين من الناس، حتى من بين المثقفين، يعرفون المبادئ النظرية، مثل مبدأ الذاتية ومبدأ عدم التناقض. وما الفائدة من هذه المبادئ؟ لكي نحكم بأن الحلو ليس

<<  <   >  >>