د- والأجسام موجودة، وعلمنا بوجودها محقق عمليًّا وإن لم يكن في مثل يقين علمنا بذاتنا وبالله. يدل على وجودها أولًا أن الذهن لا يستطيع إحداث صورها من تلقاء نفسه، وكل فاقد حاسة فهو عاطل من المعاني المتعلقة بتلك الحاسة، كالأكمه فإنه عاطل من معاني الألوان ولا يتصورها إن أمكن وصفها له. ثانيًا أننا نميز المعنى الآتي من الحس والمعنى الآتي من الذاكرة، فالأول مفروض علينا والثاني تابع للإرادة تذكره أو لا تذكره، وإن ما يصاحب الأول من لذة أو ألم لا يصاحب الثاني. ثالثًا أن الحواس يؤيد بعضها بعضًا، فالذي يرى النار يستطيع أن يمسها إن شك في وجودها، وحينئذ يحس ألمًا لا يمكن أن يحس مثله لو كان إدراكه مجرد تصور "م ٤ ف ١١ ". على أن معانينا ليست صور الأشياء أو أشباهها، وإنما هي علامات دالة عليها، كما أن الألفاظ لا تشبه المعاني التي تقوم في النفس حال سماعها, ولكنها تدل عليها. إن جواهر الأجسام خافية علينا كل الخفاء، ولكنها بقوة أو كيفية فيها تثير فينا معاني هي عبارة عن انفعالنا بتأثيرها. والكيفيات: أولية وثانوية, الكيفيات الأولية هي الامتداد والشكل والصلابة والحركة, وهي واقعية موضوعية ملازمة للأشياء في جميع الأحوال وإن كانت لا تمثلها حق التمثيل، فإن فكرة الامتداد غامضة لا تفسر وحدة الجسم أو تماسك أجزائه، وهي متناقضة لتناقض الانقسام إلى غير نهاية. والكيفيات الثانوية هي اللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة والبرودة وهي ليست للأجسام في أنفسها، وإنما هي انفعالاتها بتأثير الكيفيات الأولية في الحواس بحسب حجمها وشكلها وحركتها. فعلى كل حال نحن لا ندرك سوى انفعالنا بالأشياء، والجسم عبارة عن كيفيات مؤتلفة في تجربتنا.
هـ- والخلاصة أن معرفتنا مقصورة على التجربة الظاهرة والباطنة، فيتعين على الفلسفة أن تقنع بما يدرك بالملاحظة والاستقراء فحسب، وأن تعدل عن المسائل الميتافيزيقية وعن المناهج العقلية. وتلك نتيجة المذهب الحسي الذي بعثه روسلان وجدده أوكام وهوبس وبيكون. وسيكون لهذه النتيجة ما بعدها؛ فإن لوك ما يزال يعتقد بفاعلية الذهن، ولكن سيأتي فلاسفة من الإنجليز بنوع خاص ينكرون هذه الفاعلية, ويفسرون الفكر كله بتداعي المعاني تداعيًا آليًّا، فيضمون المذهب الحسي إلى صورته القصوى.