وهمَّت باعتقال المؤلف، ففر إلى سويسرا، ولكن السلطة بها كانت أنكرت الكتاب أيضًا فطردته، فلجأ إلى إنجلترا بصحبة هيوم ونزل ضيفًا عليه، ولكنه لم يلبث أن خاصمه وعاد إلى باريس، فسمح له بالإقامة في فرنسا، فقضى بقية أيامه في حالة مضطربة.
٩٢ - الاجتماع مفسدة:
أ- كتبه التي ذكرناها "ولم نذكر كتبه الأدبية" تفصِّل مذهبه تفصيلًا منطقيًّا بحسب ترتيب صدورها. ففي مقاله الأول يزعم أن العلوم والآداب والفنون تكمل ظاهر الإنسان فقط ولا تكمل باطنه، بل إنها كلما تقدمت أمعنت في إفساده. ويستشهد على ذلك بما توفره للرذيلة من فرص، وبما كان من مصر وأثينا وبيزنطة والصين، إذ مالت إلى الانحطاط أو غاصت في الرذيلة حالما ساد فيها حب العلوم والفنون، بينما الشعوب التي ظلت بعيدة عن عدوى المعارف الباطلة كانت فاضلة وسعدت بفضائلها، مثل الفرس الأقدمين والإسبرطيين والجرمان والسويسريين. هذا فضلًا عن أن الحكماء الحقيقين بهذا الاسم أبانوا سوء أثر الآداب والفنون. إنها تولد الرذيلة لأنها تطيل الفراغ، وتدفع إلى الترف وتنميه، ولا يتسنى الترف بغير الثراء المفرط عند بعض يقابله الفقر المدقع عند بعض. إن لدينا علماء وفنانين من كل نوع، ولم يبق لدينا مواطنون؛ وإذا كان لا يزال منهم بقية فهم في الريف فقراء محتقرون. الفضيلة ممتهنة، والمواهب الفنية معتبرة، فكان من جراء ذلك تفاوت مشئوم بين الناس. "أيتها الفضيلة! أنت العلم السامي للنفوس الساذجة, أهنالك حاجة لكل هذا العناء وهذه الأدوات لكي نعرفك؟ أليست مبادئك مطبوعة في جميع القلوب؟ أوليس يكفي لتعلم قوانينك أن نخلو إلى أنفسنا ونستمع إلى صوت الضمير في صمت الأهواء؟ تلك هي الفلسفة الحقة، فلنتعلم أن نقنع بها".
ب- هذا المقال ينطوي في الواقع على مذهب تام في الإنسان والاجتماع. وما إن شرع روسو يكتب مقاله الثاني "في أصل التفاوت بين الناس" حتى وضع شرطًا لحل المسألة "التمييز بين الأصيل والصناعي في الطبيعة الراهنة