للإنسان، وتعرف حالة تلاشت، حالة قد لا تكون وجدت، وقد لا توجد أبدًا، مثلها مثل النظريات التي يفترضها العلماء كل يوم لتفسير تكوين العالم". ولئن كان روسو يعرض نظريته بمثابة فرض، فكثيرًا ما يعتبرها واقعة تاريخية، وهو على كل حال يبني عليها جميع آرائه. هذه النظرية هي أن الأصيل في الإنسان، أو حال الطبيعة كما يقول، أن الإنسان كان متوحدًا في الغاب, لا يعرف أهله، ولعله لم يكن يعرف أولاده، لا لغة له ولا صناعة، ولا فضيلة ولا رذيلة من حيث إنه لم يكن له مع أفراد أنواعه أية علاقة يمكن أن تصير علاقة خلقية. كان حاصلا بسهولة على وسائل إرضائه حاجاته الطبيعية؛ ولئن لم يكن له غرائز معينة كغرائز العجماوات، فقد كانت له القدرة على محاكاة الغرائز والتفوق على العجماوات في تحصيل مثل ما توفره لها غرائزها المعينة، كان يعتاد الآفات الجوية وتشتد بنيته بمقاومتها، ولم يكن يصاب إلا بالقليل من الأمراض، فقلما كان يحتاج إلى الأدوية، وكانت حاجته إلى الأطباء أقل. وإنما تعتل الصحة بالإسراف في المعيشة، وبالميول المصطنعة وما ينتج عنها من إجهاد جسمي وعقلي. "إذا كانت الطبيعة أعدتنا لنكون أصحاء، فإني أكاد أجرؤ على التاكيد بأن حالة التفكير مضادة للطبيعة، وأن الإنسان الذي يتأمل هو حيوان فاسد". الحرية هي التي تميز الإنسان أكثر من الفهم "الموجود في الحيوان إلى حد ما". إن الحيوان ينقاد لدافع الطبيعة، ولكن الإنسان يرى نفسه حرًّا في الانقياد له أو مقاومته. وإنما تبين روحانية نفسه من شعور بهذه الحرية. وكان الإنسان المتوحد طيبًا تأخذه الشفقه من رؤية الموجود الحاس يهلك أو يتألم، وبالأخص إخوانه في الإنسانية. ولقد أخطأ هوبس في قوله: إن حالة الطبيعة تتميز بالطمع والكبرياء، فإن هاتين العاطفتين لا تنشآن إلا في حال الاجتماع. فالإنسان المتوحد كان كاملًا سعيدًا؛ لأن حاجاته قليلة، وإرضاءها سريع, ولأنه كان حرا مستقلا، فكان كل إنسان مساويًا لكل إنسان.
ج- كيف خرج الإنسان من هذه الحالة الأولى؟ خرج منها اتفاقًا بأن عرضت له أولًا أسباب طبيعية، كالجدب والبرد القارس والقيظ المحرق، اضطرته إلى التعاون مع غيره من أبناء نوعه تعاونًا مؤقتًا كان الغرض منه الصيد