برًّا وبحرًا وتربية الحيوان لتوفير القوت. ثم اضطرتهم الفيضانات والزلازل إلى الاجتماع بصفة مستديمة، فاخترعت اللغة، وتغير السلوك، وبرز الحسد، ونشبت الخصومة. هذا الاجتماع بنوعيه، المؤقت منه والمستديم، يمثل حالة التوحش، وهي ليست بعد الحالة المدنية؛ لأنها خلوّ من القوانين، وليس فيها من ردع سوى خوف الانتقام. وحدث اتفاقًا أيضًا أن استكشف الإنسان استعمال الحديد، وهو شرط الزراعة، والصناعتان شرط الحالة المدنية بما تقتضيان من تقسيم العمل والتعاون، إذ يستمد المزارعون الآلات الحديدية من صناعها ويعطونهم قوتهم. وتستتبع الزراعة تقسيم الأراضي، فيزداد التفاوت ويتفاقم الخصام. ويتفق الأقوياء الأغنياء على تدعيم مكانتهم فيضعون أنظمة عامة تصون لكل ملكه وتوطد السلام؛ ويذعن الفقراء الضعفاء لهذه القوانين كي يدفعوا الشر عن أنفسهم. هنا تبدأ الحالة المدنية المنظمة بالقوانين، وتثبت الملكية، ويتوطد التفاوت. وهكذا صار الإنسان الطيب بالطبع شريرًا بالاجتماع, وبما أتاحه له الاجتماع من تقدم عقلي وصناعي. وإن قيام دولة يستتبع قيام دول أخرى، فتنشب بينهما الحروب.
٩٣ - إصلاح مفاسد الاجتماع:
أ- على أن الاجتماع قد أضحى ضروريًّا، ومن العبث محاولة فضه والعودة إلى حال الطبيعة. وكل ما نستطيع صنعه هو أن نصلح مفاسده بأن نقيم الحكومة الصالحة ونهيئ لها بالتربية المواطنين الصالحين. فمن الوجهة الأولى تعود المسألة إلى "إيجاد ضرب من الاتحاد يحمي بقوة المجتمع شخص كل عضو وحقوقه، ويسمح لكل وهو متحد مع الكل بألا يخضع إلا لنفسه, وبأن تبقى له الحرية التي كان يتمتع بها من قبل". هذه المسألة هي التي يعالجها كتاب "العقد الاجتماعي" فيذهب إلى أن هذا الفرض ممكن التحقيق بأن تجمع الكثرة المفككة على أن تؤلف شعبًا واحدًا، وأن تحل القانون محل الإرادة الفردية، وما تولده من أهواء وتجره من خصومات، أي: أن يعدل كل فرد عن أنانيته، وينزل عن نفسه وعن حقوقه للمجتمع بأكمله، وهذا هو البند الوحيد للعقد الاجتماعي. ولا إجحاف فيه، إذ بمقتضاه يصبح الكل متساوين في ظل