سواء استعماله، أي: إنها تعود إلى الإرادة والأخلاق، لا إلى الفن نفسه. كذلك يقال في العلوم، فلا شك أنها مطلب العقل الذي هو من طبيعة الإنسان، وأنها في أنفسها أدوات تحت تصرف الإرادة. فكان يكفي أن يتصور حال الطبيعة حال إرادة مستقيمة مستعدة لأن تحسن استعمال العلوم والفنون، أو أن تهن فتسيء استعمالها. ولكن وراء نظريته مغزًى مستورًا هو أن العقل أناني بالطبع لأنه يحسب ويرجع كل شيء للأنا، فهو أصل الشقاء، وأن العاطفة هي المرشد الأمين الكافي لتحقيق السعادة؛ فيقول روسو:"كل ما أحسه شرا فهو شر، الضمير خير الفقهاء" ويصيح قائلا في صفحة مشهورة: "أيها الضمير! أيها الضمير! الغريزة الإلهية، الصوت الخالد السماوي، الدليل المحقق لموجود جاهل محدود ... " فكل ما يسمى الآن حقوقًا وأخلاقًا ويستمد له سندًا من العقل، هو صناعي ناشئ من الحياة الاجتماعية التي هي صناعية كذلك، وليس في حال الطبيعة أخلاق وحقوق ما دام الإنسان في تلك الحال مستغنيًا عن الإنسان مقطوع الصلة به. وإنما وقف روسو عند هذا الرأي لأنه تصور العقل آلة في خدمة الأنانية، على حين أن العقل يستكشف لنفسه قيمة خاصة، ويدرك في نفسه قانونًا خاصًّا هو القانون الخلقي الذي هو في الواقع غيري لا أناني.
د- وأي علاج وصف روسو لأمراض الاجتماع؟ إنه علق النجاة على الديمقراطية ذات الإرادة الكلية المستقيمة دائمًا، الحاكمة بأمرها في كل شيء حتى في المعتقد الديني؛ أي: إنه رأى علاج الاجتماع بضرب من الاجتماع فقدس العقد الاجتماعي، على حين أن النتيجة المنطقية لمبدئه هي الانتفاض على الاجتماع والعمل على العودة إلى حال الحرية والبرارة والسذاجة، أي: المذهب الفوضوي؛ والواقع أن تحقيق الإجماع محال، وأن الأمر يعود دائما إلى الأغلبية، وأن ليس هناك ما يضمن أن تلتزم الأغلبية النفع العام والعدالة بين الجميع، وكم رأينا الأغلبية تخطئ وتستبد أشنع استبداد، حتى في أقدس الأمور وهي العقيدة الدينية، فتنكر تلك العقائد المتواضعة التي اعتبرها روسو أساسية. فهو إذ يستبعد من حال الطبيعة الخير والشر والحق والواجب, ويقدس إرادة الأغلبية ويطالبنا بالإذعان لها كأنها الإرادة الإلهية, يقيم ضربًا من الاستبداد هو