يريد المذهب التقوي الذي نشأ عليه، وكان هو انقطع منذ زمن طويل عن الاختلاف إلى الكنائس وعن كل عبادة خارجية. فلما ظهر الكتاب وجهت إلى المؤلف رسالة ملكية تعرب عن عدم رضا الملك لرؤيته يشوه في ذلك الكتاب, وفي رسائل أخرى بعض العقائد الجوهرية في المسيحية أو يحط من قدرها، وتطلب منه الكفّ عن نشر مثل هذه الأضاليل أو عرض نفسه لإجراءات صارمة. فأجاب بأن موقفه الفلسفي يحترم المسيحية، وتعهد بعدم الكتابة أو التعليم في الدين بصفته "تابعًا جد أمين لجلالة الملك". وقال فيما بعد: إنه تعمد وضع هذا التحفظ؛ لأنه أراد أن يؤقت تعهده بحياة الملك. وبالفعل عاد إلى الكتابة في المسائل الدينية بعد وفاة الملك.
هـ- ورأى كنط أن يدل على كيفية تنظيم العلم والعمل، أي: أن يكمل فلسفته النقدية بميتافيزيقا، إذ إن النقد لا يعني إلغاء الميتافيزيقا, بل التمهيد لها باعتبارها علمًا كليًّا للتجربة, لا كالميتافيزيقا القديمة التي تدور على معانٍ جوفاء مقطوعة الصلة بالتجربة. ولما كان العقل مشرعًا على نحوين: أحدهما بالفهم في ميدان الطبيعة، والآخر بالإرادة في ميدان الحرية، كانت الميتافيزيقا على نوعين: ميتافيزيقا الطبيعة أو فلسفة العلوم الطبيعية, وميتافيزيقا الأخلاق العملية. فمن الوجهة الأولى وضع "المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي" أي: خصائص المادة وقوانين الحركة، و"الانتقال من المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي إلى الفيزيقا" أي: إلى الظواهر الطبيعية. ومن الوجهة الثانية نشر "رسالة في السلام الدائم"" ١٧٩٥ " ثم "ميتافيزيقا الأخلاق"" ١٧٩٧ " في جزأين: الأول عنوانه "المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الحق" وعنوان الثاني "المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الفضيلة" وهما يتناولان تطبيق الكليات في الجزئيات وليس فيهما شيء يعتبر جديدًا، بل هما ينمان عن ضعف الشيخوخة.
ووفي الواقع شعر كنط في السنة التي ظهر فيها كتابه الأخير بانحطاط قواه العقلية، فاعتزل التعليم بالجامعة بعد أن زاوله نيفًا وأربعين سنة، محاضرًا أثناءها في شتى العلوم، فضلًا عن علوم الفلسفة، مثل القانون والتربية وعلم الإنسان والجغرافيا الطبيعية والميكانيكا والرياضيات والمعادن, مؤلفًا في كل ذلك كتبًا ومقالات. فقد كان متوفرًا بكليته على العلم؛ لم يتزوج، ولم يكن له مع أقرب