للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن هذه المعاني ليست غير متناهية هي أنفسها، ولكنها مجردة غير معينة, وليست أفرادها متضمنة فيها كتضمن أجزاء المكان والزمان فيهما.

ج- وأما المسألة الثانية فيورد عليها كنط دليلا يعتبره حاسمًا "وإن يكن أثبته في الطبعة الأولى فقط من "نقد العقل النظري" وذكره في "مقدمة لكل ميتافيزيقا"": الرياضيات علوم أولية، والمطلوب تفسير إمكانها. الحساب علم الزمان, إذ إن العدد يتكون من آنات الزمان المتعاقبة، والهندسة علم المكان؛ فإذا لم يكن المكان والزمان صورتين أوليتين موضوعيتين، كانت المقادير الرياضية تجريبية، وكانت القضايا الخاصة بها ذات كلية نسبية فحسب، وانهارت الرياضيات الخالصة؛ ولكنها قائمة، تثبت للأعداد والأشكال علاقات كلية ضرورية، فالنظرية النقدية لازمة.

د- هذه الأدلة واهية. فالدليل الأول لا ينهض إلا إذا سلمنا لكنط أن الإحساس إحساس بكيفية صرفة لا امتداد لها في ذاتها ولا مدة، وهذا قول لازم من التصورية، ساقط بسقوطها. فإننا إذا قلنا: إن المحسوس متحيز في مكان, كان إدراك المكان مقارنا لإدراك المحسوس, ولم تعد هناك ضرورة لأن يكون المكان مفارقًا للكيفية سابقًا عليها. وإذا قلنا: إن التعاقب قانون الأحداث الظاهرة والباطنة، وإن هذا التعاقب زمان بالقوة يصير زمانًا بالفعل حالما نعده، كان التعاقب أساسًا للزمان، ولم يكن الزمان مفترضًا للتعاقب ١. والدليل الثاني يعني أن تصور المكان والزمان لازم للمخيلة لأن وظيفتها تصور المحسوس الذي هو في المكان والزمان, ولا يعني أن صورتي المكان والزمان غير مجردتين من التجربة. إن كنط يفهم التجريد على طريقة الحسيين، ولكنّ هناك تجريدًا من نوع آخر دل عليه أرسطو، هو استخلاص الخصائص الجوهرية بحدس عقلي، وليس هذا التجريد اختصارًا للجزئيات المدركة فحسب، وإنما هو إدراك للماهية مهما يكن من عدد الجزئيات، والماهية الحاصلة به مثال ونموذج لجميع الجزئيات الممكنة، وهي من ثمة كلية ضرورية لتجردها عن الأعراض المخصصة لكل جزئي والمختلفة بين جزئي وآخر. فلم لا نقول: إننا نحصل على معنيي المكان والزمان بتجريد المكان


١ انظر في كتابنا "تاريخ الفلسفة اليونانية" ما يقوله أرسطو في حقيقة المكان والزمان، وفي طريقة إدراكنا لهما، وفي التجريد، وفي اللامتناهي.

<<  <   >  >>