مرهقة للعقل. وهذه فكرة قديمة ترجع إلى نفر من الرواقيين والأفلاطونيين، احتجاجًا منهم على الإغراق في التمرينات المنطقية، وقد عرضها أفلوطين في الرسالة الثالثة من التساعية الأولى، حيث يعارض المنطق بالجدل الأفلاطوني. ويستشهد راموس بمن سبق المنطق الصناعي من فلاسفة وسياسيين وخطباء وشعراء ورياضيين. هؤلاء جميعًا استخدموا العقل دون قصد، وطبقوا القواعد دون شعور بها. فالمهارة في الجدل تكتسب، لا بترديد القواعد النظرية، بل بمخالطة "الشعراء والخطباء والفلاسفة، وبالجملة خيار الناس" مخالطة متصلة. وكان هو يستعين بقدماء الكتاب في دراسة المنطق وتدريسه، فيجد عندهم غذاء لذوقه الأدبي. وهو يقسم المنطق إلى قسمين: أحدهما في اختراع الحجج، والآخر في تركيبها، أما اختراع الحجج فهو عبارة عن كتاب أرسطو في الجدل؛ وأما تركيبها فقد اشتغل به راموس بنوع خاص وفصل نظرية الاستدلال، والأمر الغريب أنه في الواقع لم يحد عن منطق أرسطو؛ وقد هاجم أرسطو من ناحية أخرى، فاتهمه بإنكار العناية والخلق، وبوضع أخلاق مستقلة عن الدين. فانبرى له "المفكرون والأحرار" يردّون عليه, وانتشرت آراؤه في ألمانيا وأسكتلندا وسويسرا، فكان له في هذه البلدان أشياع وخصوم. وهو وإن لم ينل من أرسطو ولم يأت في المنطق بشيء جديد، فقد كان في طليعة الحاملين على المعلم الأول، الشانئين للمنطق الصوري, وسيردد مثل أقواله جميع فلاسفة القرن السابع عشر.
١٧ - ميشيل دي مونتني " ١٥٣٢ - ١٥٩٢ ":
أ- من بين المذاهب القديمة كان الشك معروفًا من كتب شيشرون وسكستوسن أمبير يقوس. وقد وجد له أنصارًا طوال القرن السادس عشر, اصطنعه بعضهم للإلحاد والاستهتار، وبعض آخر لكي يخلصوا إلى أن الدين وحده يوفر لنا اليقين، ويرشدنا إلى طريق السعادة. أشهرهم إطلاقًا ميشيل دي مونتني، شريف من أشراف فرنسا, تفقه في الأدب القديم وبخاصة الأدب اللاتيني, فعرف الشيء الكثير عن الإنسان وأحواله؛ ثم نظر إلى الناس في بلده وفي ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، فزاد معرفة بالإنسان؛ وأخيرًا آوى إلى أملاكه، بعيدًا عن الخصومات السياسية والدينية، متوفرًا على الدرس والتأليف وتعرف الإنسان في