للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ليبين عبث العقل، فاعتقد كثيرون من بعده بناء على شهادته أن العقل عابث؛ غير أنه لم يرض أن يتركنا في حيرتنا بإزائها، فزعم أن لها حلا، وحلا مرضيا جدا. ذلك أن القضيتين الأولى والثانية ونقيضيهما كاذبة على السواء لأنها جميعًا تذكر العالم كأنه شيء بالذات وهو ليس كذلك في حدسنا، فلا نستطيع أن نعلم إن كان متناهيًا أو غير متناهٍ، وإن كانت المادة مركبة من أجزاء بسيطة أو ليست مركبة. أما القضيتان الثالثة والرابعة ونقيضاهما فيمكن أن تكون صادقة على السواء، ولكن من وجهين: فيصدق النقيضان بالإضافة إلى العالم كما هو ماثل في حدسنا، وتصدق القضيتان بالإضافة إلى العالم معتبرًا كشيء بالذات، فقد يكون هناك أشياء بالذات، ومن الممكن تصور عالم معقول وإن لم ندرك كنهه، وفي هذه الحالة نتصور إمكان علية حرة تكون العلية الطبيعية معلولها، ونتصور موجودًا ضروريًّا تكون الموجودات الحادثة متعلقة به، فما إن نجد -وسوف يجد كنط- مسوغًا للإيمان بعالم معقول، حتى يصبح لدينا الإيمان بهاتين القضيتين، وهكذا يبقى الباب مفتوحًا أمام الأخلاق والدين. ولكن بم يجيب كنط على قائل كشوبنهور: إن النقائض هي الصادقة لأنها مطابقة لصور إدراكنا التي تقضي بأن لكل مشروط شرطًا، بينما القضايا كاذبة لأنها وليدة ضعف المخيلة التي تهن دون التسلسل إلى غير نهاية, فتتحمل الأسباب لتضع له حدًّا؟ وبم يجيب إذا قلنا له: إن العالم المعقول إن وجد كان خاضعًا لمبدأ العلية كالعالم المحسوس فلا تكون فيه حرية، كما يقول الدليل على نقيض القضية الثالثة، ولا يكون فيه موجود ضروري، على ما جاء في الدليل الثالث على نقيض القضية الرابعة. لقد قال كنط: إن حله للمتناقضات "قد يبدو دقيقًا غامضًا للغاية" وإنه لكذلك حقًّا.

١٠٤ - الجدل الصوري: ٤ - نقد العلم الإلهي النظري:

أ- هذا العلم يدعي التدليل على وجود موجود ضروري كعلة أولى للعالم. ويمكن رد أدلته إلى ثلاثة: الأول يستنبط وجود الموجود الضروري بمجرد تحليل معناه، وهذا هو الدليل الوجودي "والتسمية لكنط". والدليل الثاني يذهب من التجربة بالإجمال، أي: من موجود حادث أيا كان، إلى علة أولى هي موجود ضروري, وهذا هو الدليل الطبيعي. والدليل الثالث يذهب من تجربة معينة

<<  <   >  >>