للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أول من جنسها، وتؤدي الوجهات جميعًا إلى المعنى التام لله. على أن الدليل يؤدي إلى إله خالق إذا لاحظنا أن النظام في الطبيعة ليس نتيجة تركيب أجزاء مادية متجانسة كما يريد المذهب الآلي، ولكنه صادر عن ماهيات أشياء هي موجودات واحدة بوحدة حقيقية، بحيث إن إيجادها على صورة معينة هو في الواقع إيجاد المادة والصورة معًا. ثالثًا إن الدليل يؤدي بنا إلى أن منظم العالم موجود غير متناهٍ إذا فهمنا النظام على النحو المتقدم ووجدناه يعدل الخلق، إذ إن الخلق أو منح الوجود لا يكون إلا عن الموجود بالذات. أما إذا وقفنا عند موجود متناهٍ عادت المسألة فقلنا: إن هذا الموجود معلول يقتضي علة، ويمتنع التسلسل، فننتهي إلى علة أولى هي بالضرورة وجود كامل لامتناهٍ. وليس بصحيح أن هذا الدليل يعتمد على الدليل الوجودي, فقد بينا أن الانتقال من الضروري إلى الكامل غير الانتقال من الكامل إلى الضروري. وبذا تتبدد اعتراضات كنط.

هـ- خلاصة "الجدل الصوري" أن لا سبيل إلى إقامة ميتافيزيقا نظرية. وهذا ما كان كنط قد بلغ إليه شيئًا فشيئًا وأعلنه في رسائل متتالية، بحيث يبدو هذا القسم من "نقد العقل النظري" عرضًا جديدًا لتلك الرسائل. أجل إن "الحساسية والتحليل" يؤلفان صلب المذهب ويظهران التغاير بين الظواهر والجوهر وامتناع تجاوزنا نطاق التجربة. ولكن الجدل كان لازمًا لتفسير وهم الميتافيزيقا واستحالة العلم الذي لا يستند إلى الحس، وفي الوقت نفسه للكشف عن "حاجات" جوهرية في الفكر الإنساني لا يكشف عنها تحليل التجربة. فليس يرمي "الجدل الصوري" إلى أن موضوعات الميتافيزيقا غير موجودة، بل إلى أن ليس باستطاعة عقلنا إدراك وجودها وماهيتها. فإن قيل: وعلى أي شيء تقام الأخلاق؟ كان جواب كنط أنها تقوم بذاتها، وهذا عنده آمن لها، إذ إن النطق الذي يدعي التدليل على النفس والحرية والله، يدعي أيضًا التدليل على المادية والجبرية والإلحاد, فيصبح تعليق الأخلاق عليه خطرًا كبيرًا عليها. وإذن فإنكار الميتافيزيقا بالمرة أصلح للأخلاق، ولا سيما أن الجدل يبين أن أفكار الله والنفس والحرية ضرورية في العقل, وأن الأدلة عليها لازمة من قوانين العقل. فالباب مفتوح للإيمان بها إن وجدت واسطة لذلك. وعند كنط الواسطة موجودة، وهي الأخلاق كما سنرى. فالجدل الصوري يمهد للانتقال من نقد العقل النظري إلى نقد العقل العملي.

<<  <   >  >>