العقل ليضطرب إذا اعتبر أن الإله الذي يقول به كعلة أولى لا يستطيع أن يجيب إذا سأل نفسه:"أنا الموجود منذ الأزل, من أين أنا؟ ". إن الكمال المطلق لا يمحو مسألة العلية ولا يحلها, نقول: بل إنه يحلها ويمحوها, سأل موسى قائلًا:"ما اسمك؟ " فكان الجواب: "أنا الموجود" ولا جواب إلا هذا، وقد بينا أن فهم كنط لمبدأ العلية ينتقض هذا المبدأ، إذ إن عدم الوقوف عند حد في سلسلة العلل معناه عدم الوصول إلى علة بمعنى الكلمة، أي: علة غير معلولة، وترك السلسلة معلقة.
د- الدليل الطبيعي الإلهي يستنتج وجود الله من نظام العالم بحجة أن النظام لا يمكن أن يكون وليد الاتفاق أو العلية المادية. يقول كنط: هذا الدليل جميل مشهور لدى الجمهور، وهو جدير بأن يذكر دائمًا باحترام، إذ عليه اعتمد الناس دائمًا للاعتقاد بوجود الله. غير أن له عيوبا خطيرة؛ فأولًا هو يشبه غائية الطبيعة إن كانت حقيقية, بغائية الفن، مع أن بينهما هذا الفارق: في الفن المادة والصورة متغايران، فالمادة بحاجة لمن يطبعها بالصورة؛ أما في الطبيعة فلا بد من برهان خاص على أن الطبيعة عاجزة بذاتها عن إحداث النظام. ثانيًا إذا سلمنا بهذا الشبه كان كل ما نصل إليه هو أن صورة العالم هي الحادثة دون مادته، بحيث يؤدي بنا الدليل إلى إله مصور للعالم لا إلى إله خالق لمادته. ثالثًا لما كانت تجربتنا محدودة، وكان في العالم نقائص، فإن هذا الدليل يؤدي بنا إلى أن هذا الإله المصور حاصل على عقل كبير من غير شك, لكن لا على عقل غير متناهٍ؛ لضرورة التناسب بين العلة والمعلول. وأصحاب الدليل يدعون مع ذلك أنهم يصلون إلى الله الموجود الكامل، فهم هنا أيضًا ينتقلون دون أن يشعروا من العلة الضرورية لنظام العالم، على افتراضها خالقة هذا العالم، إلى الموجود الكامل, وهذا ما يفعله الدليل الطبيعي الذي يستند إلى الدليل الوجودي الذي هو غلط. وكنط واهم هنا أيضا؛ فأولًا إن البرهان على أن الطبيعة عاجزة بذاتها عن إحداث النظام برهان ميسور متى لاحظنا أن النظام تأليف الكثير لتحقيق غاية، وأن الغاية معقولة قبل تحقيقها، وأن المادة غير عاقة. ثانيًا نسلم بأن الدليل لا يذهب بذاته إلى الإله الخالق, وأن كل ما ينتجه أن لنظام العالم علة عاقلة. وإنما تعددت الأدلة على وجود الله لتعدد وجهات الإمكان في الطبيعة، كل وجهة تؤدي إلى مبدأ