ج- وإذا انتقلنا إلى مذهب الكمال في صورته الأولى أو الميتافيزيقية، وجدناه أفضل؛ لأنه لا يدع حق التقرير في الأخلاق للحساسية، بل يسلمه للعقل. ولكن فكرة الكمال غير معينة من جهة الغاية التي ترمي إليها، وليس لدينا معيار لتعيين الحد الأقصى الذي يلائمنا في واقع الأمر, وهي غير معينة في ذاتها، فإن الكمال الذي يكتسبه الإنسان هو كفاية ما لتحقيق غاية، وليست هذه الغاية غاية أخلاقية دائمًا، فلا بد من علامة غريبة عن الكمال للحكم عليه حكمًا أخلاقيًّا. فنخرج من المذهب وينكشف نقصه. وإذا اعتبرنا هذا المذهب في صورته الثانية أو اللاهوتية، رأينا من الجهة الواحدة أنه لما لم يكن لنا حدس بالكمال الإلهي فإننا لا نستطيع تعيين الكمال إلا بمعانينا نحن فنقع في دور، أو نعود إلى الصورة السابقة، ورأينا من جهة أخرى أن الإرادة الإلهية إن لم تعرف أولًا بصفات أخلاقية أمكن تصورها مصدر أوامر ونواهٍ عديمة الصلة بالخلقية أو معارضة لها، وإذا تصورناها مطابقة للخلقية فقد قدمنا الخلقية عليها ولم تعد هناك حاجة لتبرير الخلقية نفسها والبحث لها عن دعامة غريبة عنها. فمن العبث ومن الخطأ محاولة إخضاع القانون الأخلاقي لموضوع ما أو لسلطان موجود أعلى.
د- ما هو إذن المبدأ الأخلاقي؟ شيء واحد يعتبره الناس خيرًا بغير تحفظ، هو الإرادة الصالحة. أما مواهب الطبيعة، كالذكاء وسرعة الحكم وأصالته والشجاعة والحزم، وأما مواهب الحظ، كالمال والجاه والسلطة؛ وأما لذات الحياة على اختلافها، فلا يراها الضمير العام خيرات بالذات. والسبب في ذلك أنها لا تعين بأنفسها طريقة استعمالها، ولكنها مجرد وسائل تستخدمها الإرادة كما تشاء، فتكون أحيانًا كثيرة مصدر إغراء سيئ وتسخر لأغراض مذمومة. أليست رباطة جأش المجرم تثقل جرمه وتزيد في مقت الناس له؟ أما الإرادة الصالحة فهي على العكس الشرط الضروري والكافي للخلقية، إذ إنها خيرة بذاتها لا بعواقبها، وتظل خيرة حين لا تستطيع تنفيذ مقاصدها، ما دامت قد عملت وسعها في هذا السبيل.
هـ- وما هي الإرادة الصالحة؟ لأجل تحليلها كما تبدو في الضمير العام، يجب إرجاعها إلى معنى "الواجب" وهو معنى يمثل لنا الإرادة الصالحة مفروضة علينا، إذ إن طبيعتنا ناقصة، وبسبب هذا النقص لا تكون كل إرادة صالحة