هـ- خامسًا: إن الاستدلال بفكرة الواجب على ضرورة الخلود وضرورة الله استدلال سليم، ولكن بشرط أن نعترف للعقل بقوة الإدراك الموضوعي، ولمبدأ العلية بقيمة موضوعية، وهذا الشرط غير متوفر في مذهب كنط، فلا يبقى للإيمان بالخلود وبالله أساس معقول، ويكون تقدم العقل العملي على العقل النظري افتئاتًا لا مسوغ له. ولقد باعد كنط بين الخير الخلقي والخير الحسي أو السعادة في عرفه حتى ظننا كل الظن أنهما لن يتلاقيا، وها هو ذا يجمع بينهما في فكرة "الخير الأعظم" ويقول: إن هذه الفكرة يذهب إليها العقل بالذات ويقودنا بوساطتها إلى الخلود, وإلى الله, فأين كان هذا العقل بالذات وقت الشروع في إقامة فلسفة الأخلاق؟ وفيم كانت الإشادة بالفضيلة المجردة؟ وفيم كان التنديد بالسعادة؟ كيف صار للفضيلة ثمن ومكافأة، ولم تعد غاية بذاتها لذاتها؟ وإذا كان لا بد من السعادة، أفليست السعادة المجانسة للفضيلة، كما فهمها القائلون بالكمال، أولى من الأخرى؟ وكيف نأمن ألا تفسد السعادة الإرادة الصالحة بعد أن يجعل الله العالم المادي متفقًا مع الفضيلة بحيث يكافئنا باللذة كلما فعلنا الفضيلة؟ لقد أبى كنط كل الإباء أن يسند الواجب إلى الله، فما باله يعود فيقول: إن لنا أن نتصور الواجب صادرًا عن الله؟ وماذا يصير باستقلال الإنسان وإرادته، وقد تشدد كنط في صيانتهما أيما تشدد؟ هل يعقل أن تبقى حياتنا الخلقية بمعزل عن هذا الإيمان ولا تتأثر به؟ لقد أشفق كنط على حريتنا من العلم النظري بالخلود وبالله، فكيف لا يشفق عليها من الإيمان وهو يريده قويًّا راسخًا رسوخ فكرة الواجب؟ إن حل كنط لمسألتي الخلود والله حل لفظي, فإنه يقيم هاتين الفكرتين على فكرة الواجب وهي صورة صرفة لا تمتاز بشيء عن باقي الصور العقلية التي يأبى كنط أن يعترف لها بالموضوعية، فيكون الخلود ويكون الله مجرد صورتين. فكنا إذن متسامحين لما سمينا الحرية والخلود والله "مسلمات العقل العملي". إنها في الواقع "مصادرات" لا يسمح المذهب بقبولها ويضعها الفيلسوف وضعًا. وماذا فعل في النهاية؟ محا الميتافيزيقا أول الأمر, فأخطأ فهم المعاني الأخلاقية الكبرى، وقلب الوضع الطبيعي لفلسفة الأخلاق رأسًا على عقب، ثم عاد فأثبت الميتافيزيقا ليحتفظ للأخلاق ومعانيها بقيمة ما، فدلنا على استحالة الاستغناء عن الميتافيزيقا. وبعبارة موجزة: إنه هدم بيده البناء الذي شاده، وتلك عاقبة المبطل مهما يؤت من مقدرة.