فتحقيق ما يرمزان له, هي انتصار العقل الخالص يفهم الوجود فيتحرر منه. كانت الطبيعة وقواها، والدولة ومؤسساتها، تبدو كأنها أشياء خارجية مفروضة على الإنسان؛ والآن ترى الفلسفة في أفعال الطبيعة أفعال العقل أي: أفعال الإنسان، وفي المؤسسات الاجتماعية صورة السلطة الأخلاقية التي يحملها في نفسه. فليست ترمي الفلسفة إلى محو المعاني الدينية، بل إلى إحالتها معاني عقلية. وفي الفلسفة فقط يتحقق الروح المطلق أو الله تمام التحقيق؛ لأن فيها تصل الثقافة الإنسانية إلى أقصاها. وما المذاهب الفلسفية التي يسجلها التاريخ إلا حلقات في سلسلة التقدم نحو هذا النصر النهائي، أي: إنها درجات متفاوتة لفلسفة واحدة. وجود بارمنيدس وصيرورة هرقليطس ائتلفا في مذهب أرسطو؛ والأمثلة كثيرة على مثل هذا الائتلاف. ومن جهة عامة كانت الفلسفة اليونانية عبارة عن دراسة المادة، فجاءت فلسفة العصر الوسيط عبارة عن فلسفة الروح، فألفت الفلسفة الحديثة بينهما في وحدة عليا كانت الفلسفة الهجلية آخر وأكمل صوررها "طبعًا! " حيث ينتهي الروح المطلق إلى تمام الشعور بذاته، ويجمع في تركيب أعلى وأخير بين الأضداد التي صادفها في تطوره مذ كان وجودًا ولاوجودًا في آن واحد. إن الفلسفة الأخير زمانها ثمرة جميع الفلسفات السابقة، ويجب أن تضم مبادئ هذه الفلسفات جميعًا. فهي "الكل" حيث تبقى الأجزاء متمايزة من الله باعتبارها أوقاتًا في تيار التطور، وحيث تتلاشى باعتبارها مظاهر الله كما تقتضي وحدة الوجود.
وماذا نقول وسذاجة الفلاسفة لا حد لها؟ نقول مع ذلك: إن هجل قد أفلح في إقامة فلسفة فسيحة الأرجاء رفيعة العماد قائمة على فكرة رئيسية واحدة مطبقة بمنهج واحد؛ وإن تأثيره كان عميقًا في جميع النواحي: في الفلسفة الخالصة وفي الفقه والسياسة والأخلاق والدين والفن والتاريخ, غير أن منهجه صناعي وثلاثياته مفتعلة. إن نفي ما لا يعطينا معنًى جديدًا، واستنباط المعاني الأساسية ظاهري، والحقيقة: إن الفيلسوف يطالعها في الواقع، ويحاول الربط بينها بشيء كثير من التعسف. والانتقال من المنطق إلى الفلسفة الطبيعية لا يتم بموجب ضرورة جدلية، بل لأن الفيلسوف يمحو المعنى المجرد الذي بنى عليه المنطق، ويعود صراحة إلى التجربة التي استمد منها المعاني المجردة؛ لذا دعيت فلسفته الطبيعية بالجزء الخجلان في مذهبه. والانتقال من الفلسفة الطبيعية إلى الفلسفة الروحية يتم