للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عنه في الظاهر. فالدين بما هو كذلك منحدر عن الفن، وإن يكن الفن محاولة دينية أولى, فالوثنية أداة الوصل بين الفن والدين, ولها مراحل ثلاث: المرحلة الأولى السحر الذي يقدس القوى الطبيعية العاطلة من الشعور؛ والمرحلة الثانية البوذية التي تعبد إلهًا روحيًّا ولكنها تتصوره عاطلًا من الشعور كذلك؛ والمرحلة الثالثة الزرادشتية التي تقول بإله مجرد تسميه النور يحاول إثبات ذاته بإزاء الظلمة التي هي نفي وسلب. هذه الأديان الشرقية تعتبر الله موجودًا كليًّا غير ذي شخصية فتعارضها أديان "الشخصية الروحية" وهي: الموسوية التي تمثل الإثبات، والديانة اليونانية التي تمثل النفي، والديانة الرومانية التي تمثل المركب من النفي والإثبات. الموسوية أدركت استحالة التعبير عن اللامتناهي، فحظرت تصويره بأي شكل كان ونبذت الأوثان، ولكنها لم تحظر تصوره فتصورته موجودًا شخصيًّا مفارقًا للعالم كلي القدرة. ففيها وفي سائر الديانات الشرقية اللانهاية هي الغالبة. إله الشرق شبيه بملوك الشرق: هو المتصرف الأوحد، يحيي ويميت، يرفع ويضع، يريد ويفعل، وما على الإنسان إلا التسليم. وبقدر ما كان الشرق متدينًا كان اليونان مشغوفين بالطبيعة وبالأرضيات، فتصوروا الله على مثال الإنسان، أي: إنهم في الواقع عبدوا الإنسان بعقله وجماله وقوته, ولكنهم لم يتحرروا من العقلية القديمة تمام التحرر, فقد نصبوا القدر فوق البشر، وفوق الآلهة أنفسهم؛ وهذا القدر هو اللامتناهي، يتهدد البشر في كل آن وينغّص حياتهم ويشعرهم بأنهم عدم. أما الرومان فكانوا أهل جد وصرامة، فوضعوا الأخلاق الصارمة قانونًا للحياة، وعادوا إلى روحانية الألوهية معتبرين الآلهة معينين على تحقيق أوامر الضمير الإنساني. هاتان الصورتان المتعارضتان؛ اللاشخصية والشخصية, تأتلفان في المسيحية القائمة على أن المسيح إله وإنسان معًا، فتتصور اللامتناهي ينزل من عرشه، ويدخل في منطقه المتناهي، فيحيا حياتنا ويتألم ويموت، ثم يبعث فيعود إلى مجده، ففيها إثبات ونفي وتركيب. وهي تختصر الأديان وتصفيها وتكملها، كما يختصر الشعر الفنون الجميلة؛ فهي الدين المطلق.

هـ- بيد أن المسيحية نفسها ليست القمة التي ينتهي عندها تطور الروح, فإن الفن والدين يؤديان إلى الفلسفة ويأتلفان فيها. الثلاثة تقول: إن كل شيء صادر عن روح لامتناهٍ, ولكن الفن والدين وليدا العاطفة والمخيلة، أما الفلسفة

<<  <   >  >>