فإن الصوت فيه قول معقول ونطق يعرب عن كل شيء: عن الطبيعة والإنسان وأحداث التاريخ, يطاوع الفكر في جميع ثناياه فيبني وينحت ويصور ويغني ويروي؛ فهو مجمع الفنون, وهو من ثمة الفن الكامل. الملحمة تمثل الفنون الموضوعية الخلاقة، تصور مثلها الطبيعة وآياتها والتاريخ وأمجاده. ولكنها طفولة الشعر؛ هي ثرثارة طويلة كالسنين الأولى من سني الحياة، وفيرة الصور، زاخرة بالعجائب والغرائب كمخيلة الأطفال. والشعر الغنائي يقابل الموسيقى, يأوي إلى العالم غير المنظور المدعو بالنفس الإنسانية ولا يتعداه، فهو محدود ناقص. والشعر الدرامي أكمل أنواع الشعر، هو شعر الشعر، يجمع بين العالمين الظاهر والباطن، فيمثل التاريخ والطبيعة والنفس، ولا يزدهر إلا في أرقى الشعوب حضارة.
ج- وللفن على العموم، ولكل فن على الخصوص، تاريخ في ثلاثة عصور: فالفن الشرقي رمزي يستخدم الأمثلة ويستلزم التأويل ويحتمل منه وجودًا عدة. لا يقوى بعد على إخضاع المادة، فيزدري الصورة الخارجية ولا يعنى بإجادتها. يحب الكبر والعظم واللانهاية، ويغلو فيها. أما الفن اليوناني فيصطنع التعبير المباشر بدل الرمز، فتجيء مصنوعاته مفسرة أنفسها بأنفسها؛ لأنه ينزل الفكرة كلها في الصورة. غير أن هذا الكمال يورثه نقصًا، فإن تمام حلول الفكرة في المادة يفنيها فيها ويضحي بها في سبيل الصورة الظاهرة والجمال المحسوس. المسيحية تتلافى هذا النقص, فإنها ترفع الفن من العالم المنظور حيث ضل وضاع، إلى العالم المعقول موطنه الحق، وتستبدل بالجمال الحسي الجمال المعنوي، وتعبد العذراء مثال الطهارة والقداسة بدل الزهرة. ولكن أنى للصورة المادية أن تطابق المثل الأعلى؛ لذا كان الفنان المسيحي عديم الرضا عن آياته الفنية مهما تبلغ من إتقان. إن العذراء التي يتخيلها، والمنازل الأبدية التي يرنو إليها، والألحان السماوية التي يرهف لها سمع نفسه، والحياة الإلهية التي يحاول الإعراب عنها, كل أولئك أرفع وأجمل من أن يوضع في المادة؛ فييأس من قدرته، ويعود إلى ازدراء الصورة والغلو في الروحانية.
د- هذا الشعور بالعجز عن تصوير المثل الأعلى في المادة هو أصل الدين، وموضوع الدين المثل الأعلى أو اللامتناهي مدركًا في الباطن، وموضوع الفن التعبير