للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

١٢١ - الفن والدين والفلسفة:

أ- مهما تبلغ الدولة من كمال، فهي ليست الغاية القصوى التي يتجه إليها تطور الروح، وليست الحياة السياسية المظهر الأخير لنشاطه. إن ماهية الروح الحرية، وأكمل دولة فهي لا تخرج عن كونها قوة خارجية؛ لذا يصعد الروح إلى أعلى من الدولة، ويعمل على تحقيق ما يجده في نفسه من مثل أعلى للجمال والله والحقيقة، فيولد الفن والدين، ويصير الروح المطلق بالفعل إذ يتحقق على هذا النحو في نفس الإنسان.

ب- بالفن أحرز الإنسان أول انتصار على المادة قبل أن ينتصر عليها انتصارًا كليًّا بالعلم. فإن الفن إنزال فكرة في مادة وتشكيلها على مثالها, ولكن مطاوعة المادة متفاوتة, وهذا أصل تعدد الفنون الجميلة فتتدرج من المادية إلى الروحية. وهي تتوزع طائفتين: طائفة الفن الموضوعي تشمل العمارة والنحت والتصوير، وطائفة الفن الذاتي تشمل الموسيقى والشعر. في العمارة نجد الفكرة وصورتها متمايزتين جد التمايز لعصيان المادة وتمردها، فإن المادة ههنا أغلظ مواد الطبيعة؛ لذا كانت العمارة فنا رمزيا بحتا يدل على الفكر ولا يعبر عنها تعبيرًا مباشرًا. إن الهرم والمعبد الهندي والمعبد اليوناني والكاتدرائية المسيحية رموز جميلة، ولكن المسافة بينها وبين ما نرمز إليه بعيدة بعد السماء عن الأرض. تشبه العمارة السماء ذات الأبعاد الهائلة والعظمة الساحقة، فإنها تترجم عن القوة الرابضة واللانهاية الدائمة، ولكنها عاجزة عن تأدية حركة الحياة. في النحت تتقارب الصورة والفكرة إلى حد ما، فإن هذا الفن ينفخ روحًا في المادة الغليظة، كالحجر والرخام والنحاس، ويبقى عاجزًا دون التعبير عن النفس ذاتها كما تبدو للناظر. التصوير يحقق هذا التقدم, فإنه يستخدم مواد أكثر لطافة، ويقتصر على رسم سطح الجسم، ويوحي بالعمق بوساطة السطح, لكنه لا يعبر إلا عن وقت من أوقات الحياة يتنبه في المادة. وهذه خاصية مشتركة بينه وبين النحت والعمارة؛ لذا كانت هذه الفنون متلازمة تأتلف على أنحاء كثيرة؛ بالموسيقى نبلغ إلى الفن الذاتي، فإنها ترجمة عن انفعالات النفس وألوانها المختلفة إلى غير نهاية. تستخدم الصوت، وهو شيء لطيف؛ ولكن الصوت فيها رمز كالبناء في العمارة، فهو مبهم غامض كالانفعالات التي يترجم عنها، ولهذا السبب تحتمل القطعة الموسيقية تأويلات عدة. في الشعر يصل الصوت إلى درجة الكمال

<<  <   >  >>