للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى موجودات غير منظورة تؤلف عالمًا علويًّا، وكانت الدرجة الثالثة التوحيد أي: جمع كثرة الآلهة في إله واحد مفارق، وفي هذه الحالة تتسع الشقة ويزداد التضاد بين الأشياء وبين المبدأ الذي تفسر به. وقد بلغت الحالة اللاهوتية أوجها في الكثلكة التي تؤلف تأليفًا عجيبًا التفسيرات الفائقة للطبيعة في فكرة إله واحد مدبر للكل بإرادته. فخصائص الحالة اللاهوتية هي أن موضوعها مطلق، وتفسيراتها فائقة للطبيعة، ومنهجها خيالي. هذا من الوجهة النظرية, أما من الوجهة العملية فقد كانت المعاني اللاهوتية أساسًا متينًا مشتركًا للحياة الخلقية والاجتماعية، وكانت هذه المرحلة الأولى مرحلة السلطة، سلطة الكهنة وسلطة الملوك.

ج- وفي الحالة الميتافيزيقية يرمي العقل كذلك إلى استكناه صميم الأشياء وأصلها ومصيرها، ولكنه يستبدل بالعلل المفارقة عللا ذاتية يتوهمها في باطن الأشياء، وما هي إلا معانٍ مجردة جسمها له الخيال, فقال: العلة أو القوة الفاعلية والجوهر والماهية والنفس والحرية والغاية وما إليها. والميل الذي ساقه في الحالة السابقة من الفيتشية إلى تعدد الآلهة فإلى التوحيد، يسوقه هنا أولا إلى الاعتقاد بقوى بعدد طوائف الظواهر، مثل القوة الكيميائية والقوة الحيوية، ثم إلى إرجاع مختلف القوى إلى قوة أولية هي "الطبيعة". لذا تبلغ هذه الحالة أوجها في مذهب وحدة الوجود الذي يجمع في "الطبيعة" جميع القوى الميتافيزيقية. وكل الفرق بينها وبين الحالة السالفة أن المجرد يحل محل المشخص، ويحل الاستدلال محل الخيال, أما الملاحظة فثانوية فيها جميعًا. والحالة الميتافيزيقية فترة انتقال وأداة انحلال؛ هي فترة نقد عقيم ولكنه ضروري, إذ يتناول الاستدلال المعاني اللاهوتية فيبين التناقض فيها. وإذا كان العقل في هذه الحالة يضع معاني أو قوى موضع الإرادات المتقلبة، فإنه يضعف من سلطان القوى المفارقة. هذا من الوجهة النظرية, أما من الوجهة العملية فيبدو الانحلال في انتشار الشك والأنانية. فيفصم الفرد الرباط الذي يربطه بالمجتمع, ويثقف العقل على حساب العاطفة، ويتصور الاجتماع ناشئًا من تعاقد الأفراد، وتام الدولة على مبدأ سلطة الشعب، ويحكمها القانونيون.

د- وفي الحالة الواقعية يدرك العقل امتناع الحصول على معارف مطلقة، فيقصر همه على تعرف الظواهر واستكشاف قوانينها وترتيب القوانين من الخاص إلى العام؛ فتحل هنا الملاحظة محل الخيال والاستدلال, ويستعاض عن العلل

<<  <   >  >>