ولكن كونت لا يرى أن للعقل موضوعًا خاصًّا ولا مظهرًا إلا في موضوع، ويذهب في هذا السبيل إلى حد إنكار استخدام الإشارات في الرياضيات بدل الكميات, وإنكار حساب الاحتمالات لأنه عبارة عن إنكار فكرة القانون، وإنكار كل تفسير يجاوز المشاهد، مثل تفسير انتشار الضوء بالتموج أو غيره، وتفسير أصل الأنواع الحية بالتطور، وكل وجود لا يقع تحت الحس، مثل وجود الأثير أو الذرات، ويدعو كل هذا ميتافيزيقا؛ فهو يبتر من العلم مقدماته ومبادئه، ويقصي منه فروضا كثيرة نافعة. الملاحظة الثانية: أنه يجعل من الفلك علمًا أساسيًّا ويضعه في المحل الثاني، والواقع أن علم الفك يتقوم بالميكانيكا وعلم الطبيعة والكيمياء، فهو إذن علم تطبيقي تابع لهذه العلوم، ويجب أن ينزل عن مكانه لعلم الميكانيكا الذي يتخذ من الحركة موضوعًا له، وهي ظاهرة لا يمكن ردها إلى سواها، وهي بادية في جميع الظواهر الطبيعية. الملاحظة الثالثة: أنه لا يجعل مكانًا خاصًّا لعلم النفس، بل يقسم كونت دراسة الإنسان بين علم الحياة وعلم الاجتماع, حيث يدرس الإنسان في آثاره الخارجية، والواقع أن علم النفس يجيء بينهما متصلًا بالأول موصلًا للثاني. وينكر كونت إمكان ملاحظة النفس فيقول: إننا نلاحظ جميع الظواهر بالعقل، فبأي شيء نلاحظ العقل نفسه؟ لا يمكن قسمة العقل إلى قسمين؛ أحدهما يفكر والآخر يلاحظ التفكير. أما الانفعالات النفسية فتمكن ملاحظتها لأن لها عضوًا غير العقل. ومعنى هذا أن المادة لا تنعكس على نفسها، ولما كان العقل عند كونت وظيفة عضوية فهو لا ينعكس على نفسه ولا يعلم أفعاله، ولكن هذا الانعكاس وهذا العلم واقعان؛ وعلم النفس قائم, فالمنطق يقضي بأن ننكر عضوية العقل, وقديمًا استدل أرسطو على روحانية النفس بانعكاسها على ذاتها. الملاحظة الرابعة: أن كونت ينكر بذلك أصالة الظواهر النفسية، وأن جدوله إذ يحتم تبعية العلم الأدنى للعلم الأعلى، يحتم تبعية الظواهر النفسية والظواهر الاجتماعية للرياصيات, وهو لم يبين هذه التبعية, ولم يبين الفرق بينه وبين الماديين. فما المذهب الواقعي في حقيقة الأمر إلا المذهب المادي، مع استدراك متواضع بصدد الروحيات لا يبدو له أي أثر عملي.