للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هي المفيدة للفرد فحسب ولكنها أيضًا المفيدة للصنف أو النوع، من حيث إن الاجتماع والتعاون عامل فعال في درء المخاطر عن الأفراد. ولما كان بقاء النوع يتوقف على صون الذرية، وكانت الذرية في الغالب عاطلة من أسباب البقاء، فمن اليسير أن نفهم أن محبة الوالدين لذريتهم يمكن أن تنمو بالانتخاب الطبيعي؛ وإن المشاهدة لتدلنا على أن من الحيوان ما يعرض نفسه للخطر لإنقاذ غيره. وهذا يمكن أن تنشأ وتحفظ في الفرد صفات غير نافعة له بما هو هذا الفرد ونافعة للمجموع يؤيدها إقرار من جانب المجموع؛ ولقد كان هذا بالفعل شأن الصفات التي اعتبرت فضائل في شعوب مختلفة وعصور مختلفة. فالانتخاب الطبيعي يحتمل المحبة والتعاون كما يحتمل البغض والقسوة، وهناك تاريخ طبيعي لعواطف الغيرية إلى جانب التاريخ الطبيعي لعواطف الأنانية. ومهما تتسع الشقة بين ما يساور الحيوان حين يدل على عطف وتضحية وبين الخلقية الإنسانية العليا، فإن الطرفين متصلان بدرجات لا تحصى، ولا يسوغ اعتبار النمو الطبيعي منقطعًا في نقطة ما. إن في النوع الإنساني نفسه فوارق كبيرة جدا من الوجهة الخلقية؛ بل إن هناك صورًا من الحياة الإنسانية هي أدنى بكثير مما قد تدل عليه حياة الحيوان. ويعلن دروين أنه يفضل أن يكون منحدرًا من القرد الذي يخاطر بحياته لينقذ حارسه، على أن يكون منحدرًا من الإنسان المتوحش الذي يلذ بتعذيب عدوه ويقتل أولاده دون أن يشعر بوخز ضمير ويعامل نساءه معاملة الرقيق وهو نفسه مسترق لأشنع الخرافات! وهنا أيضًا يغفل دروين عن طبيعة العقل فيغفل عن طبيعة الخلقية. إن النظر السليم ليدل على أن الفعل الخلقي هو الصادر عن حكم العقل بناء على تصور الخير المجرد، وقديمًا نبه أفلاطون وأرسطو على ذلك ولاحظا أن الفعل التلقائي في الحيوان والإنسان لا يعد خلقيا.

ج- وقد أخذ على دروين أن نظريته مادية إلحادية, والواقع أنه لم يشأ أن يستثني الإنسان من قانون التطور العام, أو يعلق مسألة النفس الناطقة, وذهب إلى أن الحياة النفسية في الإنسان كما في الحيوان مرتبطة بفعل الأعضاء، وقال بدراستها من الدرجات الدنيا إلى الدرجات العليا على هذا الاعتبار. وقد كان مؤمنًا بالله إلى وقت ظهور كتابه "أصل الأنواع" وقال في ختامه: إن الصور الحية الأولى مخلوقة؛ ثم تطور فكره شيئًا فشيئًا حتى أعلن أسفه لاستعماله لفظ

<<  <   >  >>