محض الاتفاق أو الصدفة في حياة النبات والحيوان. وهي لذلك لا تستتبع الترقي المطرد في جميع الأحياء كما ظن البعض, فاعترضوا عليها ببقاء الحيوانات الدنيا, فإن دروين كان قد قال: إن الحي يبقى على حاله ما لم تضطره الظروف إلى صراع قوي للبقاء، وأن لا ميزة ترجى للدودة في اكتسابها أعضاء أكثر كمالا ما دامت ظروفها على حالها. وعلى ذلك فقد يحدث الانتخاب الطبيعي تقهقرًا إلى صورة أبسط إذا ما تبسطت البيئة لسبب من الأسباب، فتضمحل بعض الأعضاء وتضمر لزيادتها عن الحاجة. وسوف نرى دروين يمعن في الآلية والمادية بصدد الإنسان.
١٦٤ - الإنسان:
أ- في كتاب "أصل الأنواع" ترك دروين مسألة أصل الإنسان معلقة، ولكنه عاد فرأى أن ليس هناك من موجب لاستثنائه من قانون التطور. وهو يصرح بذلك في كتاب "تسلسل الإنسان" ويقول بأن الفرق بين الإنسان والحيوان فرق بالكم أو الدرجة فقط، وأن المسألة بين القوى الفكرية لحيوان من أدنى الفقريات والقوى الفكرية لقرد من القردة العليا، أكبر من المسافة بين القوى الفكرية في القرد وبينها في الإنسان. كما يقول: إن الحيوان يكتسب الفطنة والحذر مما يعرض له من تجربة ويتحمل من ألم، وإن له ذاكرة وذوقًا فنيًّا وغريزة تعاطف، فلا يسوغ نفي العقل عنه. ولدروين في هذا الباب ملاحظات عديدة دقيقة، ولكنه اعتقد مثل جميع الحسيين أن العقل امتداد للحس من نوعه، والواقع أن الحس قد يذهب في إدراكه بعيدًا جدًّا ويستدل بالجزئي على الجزئي نوعًا من الاستدلال دون أن يبلغ إلى مرتبة العقل الذي هو قوة إدراك المعاني المجردة والمبادئ الكلية وقوة الحكم والاستدلال.
ب- وقد أخذ على هذه النظرية أنها مبطلة للتعاطف منافية للأخلاق، فأقر دروين بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمكن أن يقال: إنه أخلاقي, وأن هذا هو الفرق الأكبر بينهما؛ ولكنه ارتأى مع ذلك أن لا تناقض بين القول بتنازع البقاء والقول بأن العاطفة الأخلاقية نمت نموا طبيعيا؛ ذلك بأنه ينبغي أن نذكر دائمًا أن الصفات والوظائف التي يتطلبها الانتخاب الطبيعي ليست