طبيعية. فهو لا يحتمل إلا علمًا للأخلاق من طراز العلوم الواقعية يستبعد المعاني والمبادئ الميتافيزيقية، ويقصر السيرة الإنسانية على أن تكون حالة خاصة من سيرة الكائنات الحية لا أكثر. إن الخلقية هي هذه السيرة في المراحل الأخيرة من التطور. ولما كان قانون تطور الكائن الحي الملاءمة بينه وبين بيئته، كما نشاهد في سلم الأحياء، كانت السيرة الإنسانية أو الأخلاق "جملة الأفعال الخارجية المتجهة مباشرة أو بالوساطة إلى صيانة الحياة وتنميتها". ومن شأن تطور الإنسان وتقدم الحضارة تقسيم العمل بين الأفراد واستفادتهم بعضهم من بعض، فالتعاون الاجتماعي شرط ضروري لنمو الحياة الفردية؛ لأن به يتمكن كل فرد من تحقيق غايته الخاصة. وبذا تبدو تبعية المنفعة الفردية للمنفعة الاجتماعية مشروعة كلما اختلفنا. المنفعة إذن هي الحكم لا اللذة, أجل إن الخير يتفق على العموم مع اللذة، واللذة هي العنصر الجوهري في كل تصور للخلقية، وهي دليل وفرة الحيوية، والعلامة التي تشهد للوجدان بالملاءمة الصالحة بين الأفعال ووظائف الحياة. فالغرض من اللذة هو الفعل الحيوي الذي هو طلب الغاية الطبيعية. والحياة الخلقية هي التي أفعالها متسقة مطابقة للإنسان، والحياة المخالفة للخلقية هي التي لا نظام بين أفعالها ولا اتساق. فتقدم الخلقية هو تقدم الملاءمة بين حياة الإنسان وقوانينها الأساسية, ومبدأ الأفعال الخلقية هو اعتبار النتائج الطبيعية الذاتية للأفعال دون أي شيء آخر، كالشعور بالواجب أو الخوف من جزاء عرفي.
ب- لم تحصل الملاءمة بين الإنسان وبيئته من أول الأمر، وهي غير حاصلة الآن إلا حصولا جزئيا، وقانون التطور يضمن لنا أن يتم في المستقبل. لقد تحقق التعاون بالانتقال التدريجي من الحالة العسكرية إلى الحالة الصناعية: الأولى تقوم على الحرب والإكراه والقانون العرفي, فتتضمن تبعية الأفراد للجماعة تبعية دقيقة، والثانية تقوم على العمل والتعاقد فتفسح المجال للتعاون الإرادي. ومن الوجهة العاطفية مر الإنسان بحالة أولى كان فيها يطلب منفعته الذاتية، وهذه مرحلة الأنانية؛ ثم فطن إلى أن منفعته تزداد بالتعاون مع إخوانه، فأحبهم لهذه المنفعة، فكانت مرحلة الأنانية المختلطة بالغيرية، ثبت فيها بالوراثة هذا الجمع بين المنفعتين حتى بدا العمل لمصلحة الغير أمرًا مستحبًّا ولو لم يعد منه نفع ذاتي