بل لو تعارضت المنفعتان، وهذه المرحلة ما تزال للآن، وهي مرحلة الصراع بين الأنانية والغيرية، وما الشعور بالواجب سوى مظهر سلطان التطور الماضي في أنفسنا؛ ونحن سائرون شيئًا فشيئًا إلى مرحلة ثالثة وأخيرة تتحد فيها المنفعتان تمام الاتحاد, فتسود الغيرية وتصير الأخلاق الفاضلة طبيعية في الإنسان وتمحى فكرة الواجب.
ج- في هذا المذهب أمور مقبولة وأخرى منافية لمفهوم الأخلاق. فالمقبول قول سبنسر: إن الغاية الطبيعية هي الفعل المطابق لوظائف الحياة، وإن الحياة الخلقية هي الحياة المطابقة للإنسان, وإن اللذة "الحقة" هي التي تنشأ من الملاءمة الصالحة بين الأفعال ووظائف الحياة. في هذه الأقوال التي يتوخى منها سبنسر وضع غاية ومعيار للسيرة الإنسانية, نرى معنى ميتافيزيقيا يفترضه باستمرار ولا يعترف به صراحة، هو معنى الماهية أو الطبيعة الإنسانية التي إذا طابقها فعل كان خلقيا وإذا خالفها فعل لم يكن خلقيا. هذا المعنى تفترضه جميع المذاهب النفعية فتخالف المبدأ الحسي، ولا يتمشى مع هذا المبدأ إلا أمثال أرستيب الذين يقولون باللذة كيفما كانت. أما الأمور المنافية للأخلاق فأولها تعريف سبنسر للأخلاق بأنها "جملة الأفعال الخارجية المتجهة إلى صيانة الحياة وتنميتها" هذا التعريف يلزم من المذهب الحسي، ولكنه يخالف فهم الناس جميعًا، فإنهم يريدون بالأفعال الأخلاقية أولا وبالذات الأفعال الباطنة، سواء خرجت إلى الفعل أم لم تخرج، المتجهة إلى تنمية حياة النفس ولو اقتضى الأمر التضحية بالحياة الجسمية التي لا يعرف التطور المادي حياة غيرها. وثمة أمر ثانٍ هو أن القانون في مذهب التطور قانون طبيعي لا خلقي، قانون بيولوجي هو أثر البيئة فينا، يدفعنا إلى الأمام كما يدفع الطبيعة بأسرها، في حين أن القانون الخلقي قانون مثالي معروض على الإرادة لكي تحققه باختيارها, فتحقق فوق النظام الطبيعي نظامًا إنسانيًّا بمعنى الكلمة. وأمر ثالث نجعله الأخير هو أن الغيرية التي يعدها سبنسر مرادفة للخلقية هي في مذهبه غير مقصودة بالذات ولكنها نتيجة الارتباط بين المنفعة الذاتية ومنفعة الغير، فهي الأنانية بعينها. ومتى كان قانون التطور محتومًا، فما الحاجة إلى إقناعنا بالعمل بموجبه؟ أليس لكل أن يكفي نفسه مؤنة الغيرية ويعول على الضرورة الطبيعية في تحقيق التقدم؟