فيها الرجل العادي من الحياة ويلجأ إلى الانتحار. فالأمير والصفوة المحيطة به يرغبون لأنفسهم خدعة مريحة يمالئونها على أنفسهم. هذه الخدعة هي الفن، والفن ينقذهم بأن يلطف من آلامهم ويزيد في شجاعتهم. هذه خلاصة رسالة فاجنر، وقد رأى نيتشي أن روح شوبنهور ظاهر فيها. وسوف ينسج على منوالها أو يؤيدها بشواهد من تاريخ الثقافة اليونانية.
د- فعل ذلك في أول كتاب مهم له، وهو "نشأة التراجيديا". ظهر هذا الكتاب في آخر يوم من سنة ١٨٧١ , ولما أعيد طبعه بعد خمس عشرة سنة أضاف نيتشي إلى العنوان السابق عنوانًا ثانيًا هو "اليونانية والتشاؤم" لزيادة إيضاح موضوعه. وهو يذهب فيه إلى أن قدماء اليونان مروا بعهدين متعارضين: كان العهد الأول في القرن السابع والسادس. فكان اليونان مليئين حياة أصيلة وقوة ساذجة, يداخلهم شعور تراجيدي وتشاؤم, وتداخلهم شجاعة تدفعهم إلى قبول الحياة ومخاطرها. إذ كانوا يعتقدون، كما يعتقد الأوروبيون الآن، بالقوى الطبيعية, وبأن واجب الإنسان أن يخلق لنفسه فضائله وآلهته, فازدهرت التراجيديا تدور كلها على توكيد الإنسان لقوته في مغالبة القدر وتنطق بالحكمة القوية والشعر الغنائي. ولكن التراجيديا سقطت فجأة بعد سوفوكليس كأن كارثة قضت عليها، بخلاف سائر الفنون التي جاء انحطاطها بطيئًا تدريجيًّا. ذلك بأن سقراط بدأ العهد الثاني، سقراط ابن الشعب ابن أثينا، ذلك الرجل الفقير الدميم الساحر، الذي هدم بتهكمه المعتقدات الساذجة التي كانت قوة الأجداد، وحمل التراجيديا. فاضطرب أوريبيدس، وعدل أفلاطون عن شعره التمثيلي وفرض على الناس, جريًا مع أستاذه، خدعة كانت مجهولة لدى القدماء هي فكرة طبيعية معقولة يدركها العقل الإنساني ويدرك أنها مصدر النظام. فالتخريج السقراطي والدعة الأفلاطونية يحملان طابع الانحطاط، وما نتحدث عنه من فرح اليونان وصفائهم إنما كان ثمرة عصور الاستعباد. هذا بينما كان القدامى مشغوفين بالمجد والفن، وكانوا يعلنون أن العمل اليدوي شيء مخجل وأنه يستحيل على المعنى بتحصيل رزقه أن يصير فنانًا، فاصطنعوا الرق لكي ييسروا لأقلية من البشر "الأولمبيين" أن يتوفروا على الفن. فالرق ضروري للفن والثقافة,
وأصل الرق القوة الحربية التي هي الحق الأول. وما من حق إلا وهو في جوهره