المتصوفين المسيحيين؟ لقد قرأهم خلال آرائه ومقاصده تحدوه رغبة خفية في استخدامهم لا في الأخذ عنهم. إنه يضعهم في رأس المتصوفة, ولكن لأي سبب؟ لميلهم إلى العمل، ونجاحهم في العمل، والعمل جوهر الوجود عند فيلسوفنا، أما عقيدتهم فلا يحفل بها، وهو يقول أن لا أهمية للعلم إن كان المسيح إلهًا وإنسانًا. على أن تصفح كتبهم يبين لنا بوضوح أنهم أصحاب عقيدة معينة يؤمنون بها ويحيون بها ولها، وأن العمل، عند الذين زاولوه منهم, امتداد للنظر غايته نشر ملكوت الله, وأنهم إنما يطلبون الله ويدعونه, وأنهم يجدون الله, لا وكيلا عن الله أيا كان هذا الوكيل. والمتصوف المسيحي الذي يتصوره دينه على الطريقة البرجسونية يخرج على المسيحية، أي: الذي يبتر العقائد من الدين ويبتر "القصص" القائمة عليها هذه العقائد ليقنع بطلب انفعال صرف يجهل مصدره. لقد كان على الفيلسوف أن يأخذ التجربة كاملة، ولو اقتضته مراجعة فلسفته، تلك الفلسفة التي تنتهي في الواقع إلى نفس النتائج التي انتهى إليها المذهب "العقلي" الآلي الذي يعارضه برجسون, إذ إن مذهب الصيرورة لا يسمح بإثبات نفس دائمة، ويتصور الحرية مجرد تلقائية، والفعل الخلقي إما فعلا ضروريا أو انفعالا بحتا بغير اختيار ولا إلزام، والدين مجرد انفعال أيضًا خلوا من الإله الحق.
ع- وقد نقول: إن آراء برجسون معروفة فيما سبق من الفلسفة, فالصيرورة وردت عند هرقليط وهجل، وتلقائية الحياة وردت عند شلنج ومين دي بيران ورافيسون، وصدور الموجودات عن النزوة الحيوية شبيه بصدورها عن النفس الكلية عند أفلوطين، والاسمية ونقد العقل ركنان أساسيان في المذهب الحسي، والآراء في الأخلاق والدين ورد مثلها كثيرًا في العصر الحديث، ولكنا نقول: إنه بالرغم من هذا يعد أكبر فيلسوف ظهر في فرنسا من عهد بعيد لما بذله من براعة في الجمع بين هذه الآراء والتجديد في عرضها؛ ولعله أكبر فيلسوف على الإطلاق في هذا النصف الأول من القرن العشرين. وقد كان نفوذه واسعًا عميقًا، فقد أذاع لونا من التفكير وأسلوبا من التعبير طغيا على سائر فروع المعرفة العلمية وتجاوزاها إلى الأدب. وكانت دلالته التاريخية أنه قصد إلى إنقاذ القيم التي أطاحها المذهب المادي، فهو يبدو من هذه الوجهة وكأنه واحد من أولئك "الأبطال" الذين أشاد بهم، أولئك الذين يقومون في الإنسانية ليعلنوا إيمانهم بالروح وينبهوا إخوانهم