أيضًا معاني مجردة ومبادئ ضرورية. هذه المذاهب تعود خالصة، أو تختلط فيما بينها بمقادير مختلفة، كأن يكون مذهب وحدة الوجود ماديًّا أو أن يكون روحيًّا معتمدًا على التصورية العقلية؛ أو كأن يكمل المذهب الحسي بشيء من المذهب العقلي كما نرى عند كنط وأشياعه؛ وهكذا مما مر بنا أمثلة كثيرة عليه.
ب- فتطور الفلسفة عبارة عن تداول هذه المذاهب وما تنطوي عليه من مسائل وحلول، تداولًا خاضعًا للبيئة العقلية والعوامل التاريخية وأمزجة الفلاسفة. ألم نر أن لكل أمة عقلية خاصة تغلب على تفكير أبنائها وتلون فلسفتها؟ وأن مذهب الفيلسوف يفسر بتكوينه العقلي والخلقي بل الجسمي أيضًا؟ وتداول المذاهب هذا يجعلنا نقول: إن تقدم الفلسفة قد حدث في الفروع والتفاصيل منذ عهد اليونان دون الأصل واللب، وإن مذاهب الفلاسفة المحدثين تأليفات جديدة لعناصر كانت معروفة. فلا نطلب من تاريخ الفلسفة تطورًا مستقيمًا يمضي من الناقص إلى الكامل ومن الخطأ إلى الصواب. إن مثل هذا التطور لم يحدث إلا في الفلسفة اليونانية حتى اكتملت على أيدي أفلاطون وأرسطو، ثم تناولتها العقول وتصرفت فيها على أنحاء شتى. فكل ما يقدمه لنا تاريخ الفلسفة صور هي أشبه ما تكون بتلك التي يقدمها لنا تاريخ الأدب، حتى لقد صارت الفلسفة فنًّا من الفنون تابعًا للذوق الشخصي والتجربة الذاتية، وذاع الشك في إمكان الوصول إلى حقيقة مشتركة مطلقة. ولكن ما لهذا فكر العقل، وما بهذا يمكن أن يقنع، فتنوع المذاهب أدعى إلى حفز الهمة للبحث عن الحقيقة منه إلى القعود واليأس، لا سيما أن مصيرنا في الميزان: فما فكر الإنسان إلا ليعلم أي طريق يسلك في الحياة. وإن عصرنا الحاضر، على تضارب الآراء فيه، توَّاق إلى فلسفة تكفل الأخلاق والدين, ولكنه لا يملك لمثل هذه الفلسفة إلا أسبابًا واهية متداعية، وما من ريب في أنه قد استنفد محاولات البناء بهذه الأسباب؛ ولا يتسنى البناء إلا بعد الإيمان بالعقل إيمانًا صريحًا قويًّا، والفكر الحديث متردد بين إنكار للعقل وقناعة بالحس فقط، وبين إيمان بعقل مقطوع الصلة بالوجود, ولعل إخفاق التجارب ونفاد الحيل يعودان به إلى الحق يومًا ما.