وهذه مرحلة مهمة في حياة ديكارت، فإن فكره تكون في الوقت الذي كان العلم الطبيعي الحديث يتكون فيه بتطبيق المنهج التجريبي, والاستدلال الرياضي على الظواهر الطبيعية.
ج- وفي السنة التالية " ١٦١٩ " ترك جيش الأمير إلى جيش آخر فآخر من جيوش الأمراء الألمان. وحل الشتاء، وخلا ديكارت إلى نفسه في حجرة دافئة في قرية مجاورة لمدينة أولم، وإذا بنشوة علمية غريبة تغمره وتبلغ أقصاها في العاشر من نوفمبر، وإذا به يستكشف في حلم "أسس علم عجيب" بل ثلاثة أحلام تتابعت في تلك الليلة حتى اعتقد أنها آتية من عل, هذا الحلم يدلنا على شدة استغراق ديكارت في تفكيره. أما العلم العجيب فقد تضاربت فيه الآراء، وأغلب الظن أن المقصود به "منهج كلي" يرد العلوم جميعًا إلى الوحدة، ذلك المنهج الذي سيعلنه في "المقال".
د- وعدل ديكارت عن المهنة العسكرية، وراح يطوف في أنحاء أوروبا تسع سنين حتى هبط باريس سنة ١٦٢٨. تسع سنين لم ينقطع في أثنائها عن معالجة المسائل الطبيعية بالطريقة الرياضية، أي: بتجريدها من المبادئ الفلسفية التي كانت لاصقة بها عند أرسطو والمدرسيين، وردها إلى مسائل رياضية. وإلى هذا الدور يرجع استكشافه للهندسة التحليلية، أي: تطبيق الجبر على الهندسة. أجل كان نفر من العلماء القدماء والمعاصرين قد سبقوه في هذا المضمار فعرضوا أمثلة على تطبيق هذا المنهج؛ بيد أن هذه الأمثلة كانت عندهم مجرد طرائق عملية لا يجمعها تصور كلي، فرأى ديكارت "السبب" الذي من أجله تفلح هذه الطرائق الجزئية، وهذا السبب أدى به إلى منهج كلي يطبق على جميع الحالات بغض النظر عن طبائعها الخاصة، إذ إنه نظر إلى العلم بعين الفيلسوف، فبلغ إلى كلياته، ووسع مدى تطبيقه, ولعل الهندسة التحليلية ذلك العلم العجيب. كانت الهندسة مقصورة على النظر في الأشكال، وكان الجبر كثير الصيغ معقدها، ولم يكن بين العلمين اتصال. فبدا لديكارت أن الهندسة والحساب يقومان في الترتيب والقياس, وأن المطلوب من الجبر التعبير عن أعم قوانين الترتيب والقياس، وأنه من الممكن وضع علم تكون صيغه أبسط من صيغ الحساب وأكثر تجريدًا من أشكال الهندسة، فتطبق على الأعداد والأشكال جميعًا، أي: على