منوال أرسطو والذوق العام، فقد استعاض عنه معقولية طالما نشدتها تلك الفلسفة فأعياها البلوغ إليها، إذ قد أضحت الأجسام شبيهة بالأشكال الهندسية معقولة كلها دون غموض ولا خفاء ١ , ولكنها لم تصبح كذلك إلا بإرادة الفيلسوف الذي أفرغها مما فيها من قوة وحياة، وردها أشكالًا جوفاء.
٣٧ - النفس والجسم:
أ- بقي على ديكارت، وقد استعاد يقينه بوجود الأجسام بما فيها جسمه، أن يخطو خطوة أخيرة ويفحص على طبيعته هو، إنه مؤلف من نفس وجسم، أي: من جوهرين متمايزين متضادين: النفس روح بسيط مفكر، والجسم امتداد قابل للقسمة. ليس في مفهوم الجسم شيء مما يخص النفس، وليس في مفهوم النفس شيء مما يخص الجسم، وقد أشك في وجود جسمي وسائر الأجسام دون أن يتأثر بهذا الشك وجود فكري ونفسي. لذا لا يأتي العلم بالجسم إلا في هذا الموضع كما يقتضي المنهج، وإن كان النفس والجسم في واقع الأمر متضامنين يؤلفان موجودًا واحدًا، فإن المنهج يقضي بأن تتسلسل الأفكار بنظام "إلى حد أن نفترض نظامًا بين الموضوعات التي لا تتتالى بالطبع"؛ وإن المبدأ التصوري يقضي بأن نذهب من أفكارنا إلى موضوعاتها بحيث لا يمكن أن تختلف الموضوعات عن الأفكار ولا أن يوجد في الواقع نفس وجسم يختلفان عن تصورنا للنفس والجسم. ومن أين جاء ديكارت بتعريف النفس والجسم؟ إنه يضع التعريف من عند نفسه، لا من ملاحظة الكائنات الحية، ولا يريد أن يعلم أن الجسم، وإن كان عديم القدرة على التفكير، فقد يكون شرطًا للتفكير، ومن ثمة قد يكون متصلًا بالنفس ضربًا من الاتصال أوثق من الذي يرضى به الفيلسوف الأفلاطوني. وقد اعتقد ديكارت أنه بهذا الفصل التام بين النفس والجسم أسقط المادية وأقام الميتافيزيقا. ولكن هذا الفصل الذي ينكر النفس على الحيوان ويجعل من البيولوجيا فرعًا من الميكانيكا، قد يؤدي إلى إنكار النفس على الإنسان ورد التعقل إلى الإحساس المشاهد في الحيوان، فتسقط الروحانية، وتسقط الميتافيزيقا
١ "مقال في المنهج" القسم الخامس؛ و"مبادئ الفلسفة".