مثال أفكاره، ويمحو منها القوة والحياة اكتفاء بالحركة الآلية. فكان ديكارت أول من حرر العقل من سلطان الوجود، وأعلن أن الفكر يكفي نفسه بنفسه ولا يخضع لشيء سواه، فقلب الوضع الطبيعي الذي يجعل العقل الإنساني تابعًا للوجود ومحتاجًا إلى التعلم من السلف، وأقام "الفردية" على أساس فلسفي بعد أن كانت مجرد عصيان وتمرد، تلك الفردية التي تحمل الشخص على أن يظن نفسه أهلًا للحكم على الأشياء بنفسه، كأن ليس هناك عقول غير عقله، فتورث الفوضى العقلية، وعلى أن يجعل من نفسه مركزًا تدور حوله الأسرة والمجتمع، فتورث الفوضى الخلقية والاجتماعية، وقد كان العصر يضطرب بهذه الفردية التي تنفر من كل سلطان في العلم والفلسفة والدين, وبالعلم الآلي الذي يرمي إلى السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لتحقيق سعادة الإنسان على وجه الأرض؛ وكان يلتمس طريقه إلى توضيح هاتين النزعتين وتسويغهما؛ فلما جاء ديكارت أحسهما إحساسًا عميقًا، وساهم في العلم مساهمة خصبة، ووضع فلسفة تؤيده وتحميه، وترفع الفردية من مستوى العاطفة والإرادة الغامضة إلى مستوى الحق والقانون، فوضع دستور الفكر الحديث، واستحق أن يدعى أبا الفلسفة الحديثة.
٣٩ - ذيوع فلسفة ديكارت:
أ- في حياة ديكارت انتشرت فلسفته في أوروبا بأسرها، وأضحت بعد مماته معينًا يستقي منه الأنصار وهدفًا يرميه الخصوم. ففي فرنسا كانت الصالونات تتندر ببعض نظرياتها وتعابيرها، حتى إن موليير تناولها على المسرح، بينما كان اللاهوتيون والأرسطوطاليون في الجامعة وخارجها ينددون بها ويحضون السلطة المدنية على تحريمها، وكان الأوغسطينيون يناصرونها ويحملون على أرسطو. وفي هولندا كان النزاع عنيفًا، وقام من بين الأساتذة البروتستانت نفر يعارضها ويرى فيها خطرًا على الدين. وفي ألمانيا وإيطاليا ظهرت كتب تعرضها وتحبذها.
ب- من بين المذكورين من مخالفيها بيير جساندي " ١٥٩٢ - ١٦٥٥ " وهو قسيس فرنسي علم الفلسفة والرياضيات، واشتغل بالطبيعيات والفلك، وكان معجبًا بجليليو متأثرًا به. نشر في شبابه نقدًا شديدًا للفلسفة المدرسية، واصطنع مذهب أبيقور أخذًا عن لوكريس. وكان أحد الذين عرضت عليهم "تأملات"