مجال لتحليل الأشياء إلى أجناس وأنواع، وإنما تحل إلى أجزاء حقيقية كأجزاء الآلة، فلا نقول:"الإنسان حيوان ناطق" بل نقول: "الإنسان نفس وجسم". وديكارت يستبعد بالفعل الحكم الأرسطوطالي "وهو إسناد محمول إلى موضوع، أو وصف شيء بشيء" ويستعيض عنه بمعنى آخر للحكم هو أنه اعتقاد الإرادة بوجود خارجي لموضوع فكرة ما. وإن من ينعم النظر في "قواعد تدبير العقل" يرى في ديكارت واحدًا من الإسميين، أولئك الفلاسفة الحسيين الذين ظهروا في القرن الرابع عشر, وكانوا أول الخارجين على الفلسفة الأرسطوطالية، فإن ديكارت يعتبر المعاني الكلية أسماء جوفاء، ويستعيض عنه بما يسميه الطبائع البسيطة، ويستعيض عن منطق أرسطو بمنهج الرياضيين، ويلزم من ذلك "كما تنبه إليه الحسيون، القدماء منهم والمحدثون" أن ليس هناك حقائق ضرورية، فينشأ لدينا سبب آخر للشك في العقل شكا حقيقيا لا منهجيا. ويمكن أن نقول: إن الفلسفة الحديثة كلها اسمية مثل ديكارت.
ج- بهذا المذهب أحدث ديكارت انقلابًا خطيرًا في عالم الفكر؛ فأولا قد غير نظر العقل لطبيعته. كان القدماء يعتقدون أن العقل يدرك الوجود، فأصبح العقل منعزلًا في نفسه, وأخذ الفلاسفة من بعده بهذه التصويرية، فأنكروا العالم الخارجي -ولم يكن ديكارت قد آمن به إلا بمخالفته للمبدأ التصوري, ولم يؤمن به إلا هزيلًا ضئيلًا على ما رأينا- وأنكروا العلية فاعلية وغائية، وأنكروا الجوهر والنفس والله. في الحق إذا كنا لا ندرك سوى تصوراتنا، فلا سبيل إلى تجاوزها وهذا الفصل بين الفكر والوجود استتبع الفصل بين العلم الواقعي والفلسفة، فعاد العلم لا يعرف له موضوعًا غير الامتداد والحركة، وحصرت الفلسفة دائرتها في الفكر فأصبحت تأليفًا ذاتيًّا أو نوعًا من الفن، وانقسم المفكرون طائفتين: واحدة تأخذ بالعلم فترد الفكر إلى حركة مادية، وأخرى تنحاز إلى الفلسفة فترد المادة والحركة إلى الفكر. وما تزال هذه الثنائية والمشكلات الناجمة عنها قائمة إلى اليوم.
د- وغير ديكارت معنى الوضوح والمعقولية، فأصبح العقل المنعزل في ذاته القانون الأكبر والأوحد "لا يسلم شيئًا إلا أن يعلم أنه حق" أي: إلا أن يعقله هو، ويركبه بأفكار واضحة هي في الواقع أفكار سهلة، فإن استعصى عليه شيء أنكره. وقد رأينا ديكارت يذهب من الفكر إلى الوجود، ويتصور الأشياء على