للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذكرنا أن كبلر وجليليو ثم نيوتن من بعدهما اكتشفوا بالتجربة قوانين مضبوطة، فكانت تسمح لهم بتوقع الظواهر وتقودهم إلى مكتشفات جديدة، بينما القوانين "غير الصحيحة" التي فرضها ديكارت على الطبيعة لم تكن تفسر الأشياء إلا تفسيرًا إجماليًّا، ولا تسمح بأي توقع إذا ذكرنا ذلك كان لنا منه مثال آخر على ثأر الطبيعة من المتجبرين عليها وسخريتها منهم.

٣٨ - تعقيب على المذهب:

أ- نستطيع الآن أن نرى أن العلم الطبيعي الرياضي مفتاح المذهب، كما أن الشك في ضرورة الحقيقة مفتاح المنهج " ٣٥ جـ". تقدم لنا الرياضيات المثل الأعلى للعلم، ذلك العلم "اللمي" الذي ينزل من المبادئ إلى النتائج, فيبين علة النتائج في مبادئها ويرضى العقل تمام الرضا. كان أفلاطون يصبو إلى هذه الغاية ويحاول تحقيقها؛ وكان أرسطو يعتبرها كذلك الغاية القصوى, ولكنه فطن إلى أن العلم الطبيعي نوع آخر من العلم، هو العلم "الأني" المكتسب بالاستقراء، يأتي في المرتبة الثانية لأنه يقتصر على القول بأن الشيء كذا دون بيان العلة في أكثر الأحيان، ولكنه العلم الملائم لطبيعة معرفتنا التي تبدأ بالمحسوس وتتأدى منه إلى المعقول. ولم يوفق ديكارت إلى مثل اتزان أرسطو وتواضعه، فقد غلا في طلبه المعقولية وأراد أن يكون علمنا كله لميًّا أو لا يكون أصلًا، فأحال العلم الطبيعي علمًا رياضيًّا بحتًا. وذهب في ذلك إلى حد افتراض قوانين كان يعلم عدم مطابقتها للواقع، ولكنه افترضها "لكي يمكن أن تقع الأشياء تحت الفحص الرياضي". والرياضيات لا تنظر في غير الأعداد والأشكال, فمتى رددنا العلم الطبيعي إلى الرياضي, رددنا الأجسام الطبيعية إلى أشكال هندسية، ورددنا أفعالها إلى حركات آلية تقاس ويعبر عنها بأعداد، سواء في ذلك الأفعال الحيوية والأفعال الجمادية على ما بين الطائفتين من تباين. فيلزم عن ذلك أن الإحساس ذاتي، وأن لا شبه بينه وبين علته الخارجية.

ب- يضاف إلى ما تقدم أن تصور الأجسام الخارجية آلات، أي: مركبات صناعية خلوًا من كل طبيعة أو ماهية، يحملنا على استبعاد المنطق القديم القائم على أن الموجودات طبائع وماهيات لها خواص وأعراض، فلا يبقى هناك

<<  <   >  >>