تطبع صورها في النفس، فإن الأدنى لا يؤثر في الأعلى "وهذا مبدأ متواتر عند الأفلاطونيين، بما فيهم أفلوطين وأوغسطين". "إن الموضوع المباشر لذهننا حين يرى الشمس مثلًا, ليس الشمس، بل شيئًا متحدًا بنفسنا اتحادًا وثيقًا، وهذا ما أسميه فكرة ١ idee". وليس يمكن أن تتحد بالنفس أشياء بعيدة عنا مباينة لفكرنا. إن إدراكات الحواس انفعالات، ولا تنطوي على معرفة الأشياء الخارجية، بل تقتصر على تنبيهنا إلى ما بيننا وبين الأشياء من علاقات لأجل صيانة حياتنا. فمالبرانش يصطنع موقف ديكارت بكل دقة, ويسهب في بيانه، وبخاصة في كتاب البحث عن الحقيقة، فيتحدث عن أخطاء الحواس، وتعارضها فيما بينها، وتعارضها مع المعرفة العقلية؛ ويتحدث عن المخيلة فيقول: إنها ليست أكثر تعريفًا لنا بالأشياء، وإنها تربط بين الصور برباطات غير عقلية، فتسبب أخطاء كثيرة، وتقر في الذهن معتقدات باطلة يفيض في شرحها. وعلى هذا يكون وجود العالم وعدمه سواء ما دامت الأشياء غير مدركة في أنفسها، وما دامت الانفعالات التي تحملنا على الاعتقاد بها تغيرات ذاتية ليس غير، قد نحسها في غيبة الأشياء أو عدمها. ولا يمكن أن يقال: إن الأفكار غريزية في النفس، فإنها غير متناهية العدد والنفس متناهية. فلا يبقى إلا أن الله هو الذي يحدثها في النفس من حيث إن الأعلى هو الذي يؤثر في الأدنى؛ وإننا إنما نعتقد بوجود العالم لأن الوحي ينبئنا بأن الله خلق سماء وأرضا وغير ذلك؛ وفيما خلا الوحي فلا سبيل إلى الجزم بوجود العالم.
ب- وبعبارة أدق نحن نرى أفكارنا في الله، أفكار الماديات والحقائق الكلية الضرورية, فإن الله "محل الأفكار جميعًا" و"هو وحده معلوم بذاته, وما من شيء نراه رؤية مباشرة إلا هو". ذلك بأن الله ليس مرئيا بفكرة تمثله كما ذهب إليه ديكارت. إن هذا شأن سائر الأشياء، أما الله الموجود اللامتناهي فليس يرى في شيء متناهٍ بل في ذاته دون واسطة؛ لأنه حاضر لجميع المخلوقات وحاضر لفكرنا، ونحن حاصلون دائمًا على فكرة اللامتناهي، ومتى كنا نفكر في الله وجب أن يكون الله موجودًا، فالدليل الوجودي كما يعرضه ديكارت دليل صحيح، ولكنّ له عيبًا هو أنه دليل. إنه يذهب من فكرة الله إلى وجود الله كأن
١ "البحث عن الحقيقة" الكتاب الثالث، القسم الثاني، الفصل الأول.