للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محقق١ كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: ٢٥] , وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: ٦٣] ، وإما مقدر، نحو:

ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومة٢

وقراءة من قرأ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ} [النور: ٣٦] وقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: ٣] ببناء الفعل "يسبَّح، ويوحَى" للمفعول٣. وفضل هذا التركيب على خلافه -أعني نحو: "ليبك يزيد ضارع" ببناء الفعل للفاعل، ونصب "يزيد"- من وجوه: أحدها أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين؛ إجمالا ثم تفصيلا، والثاني أن نحو "يزيد" فيه ركن الجملة لا فضلة٤، والثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل، فيكون عند ورود ذكره كمن تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب، وخلافه بخلاف ذلك.

ومن هذا الباب -أعني: الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابا عن سؤال مقدر- قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: ١٠٠] على وجه٥؛ فإن {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} إن جعلا مفعولين لـ "جعلوا"، فـ "الجن" يحتمل وجهين: أحدهما ما ذكره الشيخ عبد القاهر٦ من أن يكون منصوبا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر، كأنه قيل: من جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجن، فيفيد الكلام إنكار الشرك مطلقا، فيدخل اتخاذ الشريك من غير الجن في الإنكار، دخول اتخاذه من الجن، والثاني: ما ذكره الزمخشري، وهو أن ينتصب {الْجِنَّ} بدلا من {شُرَكَاءَ} ، فيفيد إنكار الشريك مطلقا أيضا كما مر٧، وإن جُعل {لِلَّهِ} لغوا٨ كان {شُرَكَاءَ الْجِنَّ} مفعولين، قدم ثانيهما على الأول، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك مَلَكا كان أو جِنِّيا أو غيرهما، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء، ولو لم يُبْنَ الكلام على التقديم وقيل: "وجعلوا الجن شركاء لله" لم يفد إلا إنكار جعل الجن شركاء، والله أعلم.

ومنه ارتفاع المخصوص في باب "نعم وبئس" على أحد القولين٩.


١ السؤال المحقق هو المذكور في الكلام، والمقدر بخلافه.
٢ هو للحارث بن ضرار النهشلي, أو الحارث بن نهيك من قوله في رثاء يزيد بن نهشل "الطويل":
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
وقبله:
سقى جَدَثا أمسى بدوحة ثاويا ... من الدلو والجوزاء غادٍ ورائح
قوله: "ليبك" بالبناء للمفعول، والضارع: الذليل، والمختبط: الذي يأتي إليك للمعروف من غير وسيلة، وقوله: "تطيح" بمعنى تذهب وتهلك، والطوائح: جمع مطيحة على غير القياس، وقياسه: مطاوح أو مطيحات وهي النوازل الصعبة، والشاهد في حذف فعل "ضارع" إذ التقدير: يبكيه ضارع. يصفه بأنه كان ملجأ الذليل, وعون المحتاج.
٣ فيكون كل من لفظ الجلالة "الله" و"رجال" في الآيتين فاعلا لفعل محذوف تقديره: يوحي ويسبِّح.
٤ كونه ركن الجملة يفيد الاعتناء بشأنه، ويناسب مقام رثائه.
٥ هو الوجه الذي سينقله عن عبد القاهر، لا الوجهان المذكوران بعده.
٦ دلائل الإعجاز ص١٨٧, ١٨٨.
٧ لأنه يكون بدل بعض من كل، والتقدير: الجن منهم.
٨ أي: جارا ومجرورا متعلقا بـ {شُرَكَاءَ} مقدما عليه.
٩ هو قول من يجعله مبتدأ محذوف الخبر، فيكون التقدير في قولك "نعم الرجل زيد": زيد الممدوح، وهو واقع جواب سؤال مقدر أيضا، كأنه قيل: من الممدوح؟ وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: إنه بدل من الفاعل قبله، فالأقوال أربعة لا اثنان.

<<  <  ج: ص:  >  >>