وثالثتها: تنكير "شيبا" لإفادة المبالغة، ثم ترك "اشتعل رأسي شيبا" لتوخي مزيد التقدير إلى "اشتعل الرأس مني شيبا" على نحو: "وهن العظم مني" ثم ترك لفظ "مني" لقرينة عطف "اشتعل الرأس" على "وهن العظم مني" لمزيد التقرير، وهو إيهام حَوَالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ".
ثم قال عقيب هذا الكلام:
"واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي "رب" اختُصرت ذلك الاختصار، بأن حذفت كلمة النداء وهي "يا"، وحذفت كلمة المضاف إليه وهي ياء المتكلم، واقتُصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب وهي المنادى، والمقدمة للكلام كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة نازلة منزلة الأساس للبناء، فكما أن البنّاء الحاذق لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه، كذلك البليغ يصنع بمبدأ كلامه؛ فمتى رأيته قد اختصر المبدأ فقد آذنك باختصار ما يورد". انتهى كلامه.
وعليك أن تتنبه لشيء، وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ "العظام" إلى لفظ "العظم" فيه نظر؛ لأننا لا نسلم بصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد١؛ فالوجه في ذكر "العظم" دون سائر ما تركّب منه البدن، وتوحيده؛ ما ذكره الزمخشري؛ قال: "إنما ذكر العظم؛ لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، وإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحّده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية٢، وقصده إلى أن هذا الجنس -الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد- قد أصابه