أَمَا كَانَ فِي أَوْلادِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ... لَكَ الْوَيْلُ مَا يُغْنِي الْخِبَاءَ الْمُحْجِبَا
أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ تَمُوتِي غَرِيبَةً ... بِيَثْرِبَ لا تَلْقَيْنَ أُمًّا وَلا أَبَا
وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: أَرْضُ الرَّجُلِ ظِئْرُهُ، وَدَارُهُ مَهْدُهُ، وَالْغَرِيبُ كَالْفَرَسِ الَّذِي زَايَلَ أَرْضَهُ، فَهُوَ ذَاوٍ لا يَنْمَى، وَذَابِلٌ لا يَنْضُرُ.
وَفِطْرَةُ الرَّجُلِ مَعْجُونَةٌ بِحُبِّ الْوَطَنِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِبِلَ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا، وَالطَّيْرُ إِلَى أَوْكَارِهَا.
وَكَانَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدِ انْتَقَلَ عَنْ وَطَنِهِ، فَنَزَلَ دِيَارًا أَعْمَرَ مِنْ دِيَارِهِ وَأَخْصَبَ، وَدَانَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ، ثُمَّ كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْوَطَنَ يَحِنُّ حَنِينَ الْإِبِلِ إِلَى الْأَوْطَانِ.
وَأَنْشَدُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى:
مَا مِنْ غَرِيبٍ وَإِنْ أَبْدَى تَجَلُّدَهُ ... إِلا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْغُرْبَةِ الْوَطَنَا
وَمَا يَزَالُ حَمَامٌ بِاللِّوَا ... غَرِدٌ يُهَيِّجُ مِنِّي فُؤَادًا طَالَمَا سَكَنَا
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ، فَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
إِذَا مَا ذَكَرْتُ النَّفَرَ فَاضَتْ مَدَامِعِي ... وَأَضْحَى فُؤَادِي نَهْبَةً لِلْهَمَاهِمْ
حَنِينًا إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي ... وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ
وَقَالَ آخَرُ:
يَقَرُّ بِعَيْنَيَّ أَنْ أَرَى فِي مَكَانَةٍ ... ذَرَى عَطَفَاتِ الْآرِجِ الْمُتَعَاوِدِ
وَأَنْ أَرِدَ الْمَاءَ الَّذِي عَنْ شِمَالِهِ ... طَرُوقًا إِذَا مَلَّ السُّرَى كُلُّ وَاحِدٍ
وَأُلْصِقُ أَحْشَائِي بِبُرْدِ تُرَابِهِ ... وَإِنْ كَانَ مَمْزُوجًا بِسُمِّ الْأَسَاوِدِ
وَأَنْشَدَ أَبُو النَّصْرِ الْأَسَدِيُّ:
أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ مَا بَيْنَ صَارَةَ ... إِلَى قِفْوَانَ أَنْ يَسِحَّ سَحَابُهَا
بِلادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِي ... وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا