للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سقاني من مر فعاله ولكنه ضمن الفعل: "نأي" الذي لا يتعدى هنا بالحرف "من" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "بعد، أو: "ضجر"؛ فالمراد: بعدت، أو: ضجرت من صحبة فلان، كما ضمن الفعل: "سقى" الذي لا يتعدى هنا "بالباء" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "آذى"، أو"تناول" فالمراد: "آذاني" أو: "تناولني" بمر فعاله، وكذلك: "شربت بماء عذب"؛ فإن الفعل "شرب" قد ضمن معنى الفعل: "روي" فالأصل: رويت، وهكذا بقية حروف الجر.

والمذهب الثاني١: أن قصر حرف الجر على معنى حقيقي واحد، تعسف وتحكم لا مسوغ له، فما الحرف إلا كلمة، كسائر الكلمات الاسمية والفعلية، وهذه الكلمات الاسمية والفعلية تؤدي الواحدة منها عدة معان حقيقية٢، لا مجازية، ولا يتوقف العقل في فهم دلالتها الحقيقية فهمًا سريعًا، فما الداعي لإخراج الحرف من أمر يدخل فيه غيره من الكلمات الأخرى، ولإبعاده عما يجري على نظائره من باقي الأقسام؟

إنه نظيرها؛ فإذا اشتهر معناه اللغوي الحقيقي، وشاعت دلالته، بحيث يفهمها السامع بغير غموض، كان المعنى حقيقيًا لا مجازيًا، وكانت هذه الدلالة أصيلة لا علاقة لها بالمجاز، ولا بالتضمين ولا بغيرهما، فالأساس الذي يعتمد عليه هذا المذهب في الحكم على معنى الحرف بالحقيقية هو شهرة المعنى اللغوي الأصلي المراد وشيوعه،


١ وهو مذهب الكوفيين، كما يصرح كثير من النحاة والحق أنه ليس مقصورًا عليهم؛ بل يشاركهم فيه بعض أئمة النحاة من غيرهم؛ كالمبرد وهو بصري، فقد جاء في كتابه الكامل "جـ ٣ ص ٤٦ طبعة مطبعة الفتوح، عند شرحه لبيت أبي النجم الذي صدره: "سبي الحماة، وابهتى عليها". . . "وقد سبق البيت لمناسبة أخرى في هامش ص ٤٧٦"، ما نصه:
"حروف الخفض، يريد: حروف الجر، يبدل بعضها من بعض إذا وقع الحرفان في معنى، في بعض المواضع؛ قال الله عز وجل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: على، وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: بأمر الله:. . .، وقال العامري: "إذا رضيت علي بنو قشير. .." أي: عني، وهذا كثير جدًا". ا. هـ.
ففي تلك الأمثلة ونظائرها أبدل حرف جر من آخر بمعناه، أي حل في مكانه.
٢ والمراد هنا ما يشمل: "الحقيقة، اللغوية الأصلية، والحقيقة العرفية".

<<  <  ج: ص:  >  >>