للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والنحاة يتخيرون هذا الموضع للكلام على حكم كثير من الأسماء المتقدمة على عواملها وينتهزون فرصة: "الاشتغال" ليعرضوا أحكام تلك الأسماء؛ سواء منها ما يدخل في باب: "الاشتغال" وتنطبق عليه أوصافه التي عرفناها، وما لا يدخل فيه، ولا تنطبق عليه صفاته١: وهم يقسمونها ثلاثة أقسام٢: ما يجب نصبه، وما يجب رفعه، وما يجوز فيه الأمران.


١ كالحالة التي يجب فيها رفع الاسم السابق؛ إذ لا ينطبق عليها في الصحيح تعريف "الاشتغال" الأصيل، ومثلها حالات الرفع الأخرى التي يكون الرفع فيها جائزًا، فحالة الرفع بنوعيه لا ينطبق عليها -في الصحيح- الاشتغال الحقيقي ما دام الاسم مرفوعًا.
كما سيجيء في "ب" من ص ١٣٢ ثم انظر رقم ٢ من ص ١٣٨.
٢ الواقع أنهم يقسمونها خمسة أقسام، "قسم يجب فيه النصب"، وقسم يجب فيه الرفع، وقسم يجوز فيه الأمران والنصب أرجح، وقسم يجوز فيه الأمران والرفع أرجح، وقسم يجوز فيه الأمران على السواء"، وواضح أن هذا التقسيم يوجب النصب وحده في بعض حالات، ويوجب أخرى كذلك، ويجيز الأمرين في كل حالة من الأحوال الثلاثة الباقية، ولكن هذه الإجازة قد تكون مع الترجيح أحيانًا؛ كأن يكون النصب هو الأرجح؛ فيكون الرفع هو الراجح؛ أو العكس؛ "بأن يكون النصب هو الراجح، والرفع هو الأرجح"، واستعمال الراجح ليس معيبًا ولا ضعيفًا من الوجهة اللغوية، نعم هو -مع كثرته وقوته- لا يبلغ "درجة" الأرجح فيهما، لكن كلاهما عربي فصيح، وهذه الأرجحية مزية يسيرة إذا كان الداعي لها أمرًا بلاغيًا مما يطأ ويتغير بحسب الدواعي، فهي ليست أرجحية ذاتية دائمة؛ إنما هي خاضعة لأذواق البلغاء في العصور اللغوية المختلفة، متفاوتة بتفاوت تلك الأزمان والدواعي؛ -لكيلا تتجر البلاغة وتجمد عند حد لا تتجاوزه كما يصرح علماؤها - فالراجح قد يشيع ويكثر استعماله في عصر لغوي؛ فيكون هو الأرجح، وعندئذ ينزل الأرجح إلى "درجة" الراجح، ثم يبدل الحالة مرة أخرى في عصر لغوي جديد، فيذيع استعمال بلاغي لم يكن ذائعًا من قبل، بل في بيئة أخرى مع اتحاد العصر، فيقع التغيير في "الدرجة" كما وصفنا؛ وهكذا دواليك ... = فالتفاوت بينهما منشؤه الأرجحية التي قد تتغير، ولا تثبت -كما قلنا - ولو كان منشؤه القلة الذاتية المعيبة والضعف، أو الحسن والقبح اللغويين، لوجب الاقتصار على القوي دون الضعيف، وعلى الحسن دون القبيح، لهذا لا داعي لكثرة الأقسام، والأحكام، وتعدد الآراء في كل حكم، وما يتبعه من عناء لا طائل وراءه.
على أنا سنشير إلى أقسامهم الخمسة "في ص ١٣٧"، ونصف منها بالقلة ما وصفوه، علمًا بأن هذه القلة -كما سبق- ليست المعيبة في الاستعمال، ولا المانعة من القياس على نظائرها؛ لأنها نسبية لا ذاتية، أي: أنها قلة عددية راجحة، بالنسبة للكثرة العددية التي للأرجح، ولو كانت القلة معيبة هنا ما وصفوا الضبط الوارد بها بأنه "راجح"، وأن غيره أرجح؛ إذ المعيب الذي لا يصلح استعماله لا يوصف بأنه راجح ولا حسن، وفوق هذا فالخلاف محتدم في أمر هذي الوصفين وانطباقهما، أو عدم انطباقهما على بعض أقسامهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>