الظاهرتين اللتين قدمتا. فما يصدر الغرب للشرق من آثار حضارته قد وقف أو كاد عند أسوأ ثمرات هذه الحضارة وعندما كان يؤتى بلاد الغرب من الربح المادي ما يمده بأسباب الرخاء والترف. فتجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو وجوقات الهذر المسرحي كانت أول ما يصدم الناظر لآثار الغرب في الشرق. ولم يقدم الغرب إلى جانب هذا من صالح ثمرات حضارته ما يستر سوآتها هذه، بل هو كما قدمنا قد وقف حائلا دون سرعة انتشار العلم الصحيح مما كان هؤلاء الشبان يجاهدون بكل ما يدخل في حدود طاقتهم لنشره والتمكين له.
ثم كشفت تعاقب السنين من بعد الحرب عن الحقيقة المؤلمة المضنية، فقضية أوربا التي حاربت في سبيلها أربع سنوات تباعا والتي بذلت فيها مهج أبنائها وملايين ما كدست من الثروة على السنين، لم تكن إلا قضية الاستعمار ومن يكون له حق التوسع فيه دول الوسط أمام الخلفاء، ثم بدت حقيقة أشد من هذه الحقيقة مرارة وإيلاما، تلك أن الغرب الذي تزعم دولة أنه تحرر من قيود التعصب الديني ما زال يذكر الحروب الصليبية التي نشبت خلال القرون بين المسيحية والإسلام. وإن كلمة لورد اللنبي يوم استولى على القدس وقوله أن الحروب الصليبية قد انتهت كانت تعبر عن معنى يجول بخاطر الدول الأوروبية جميعًا.
في ظل هاتين الحقيقتين الأليمتين جعلت دول الغرب التي وضعت يدها على العالم الإسلامي تمد في أسباب الجمود الديني عن طريق الجامدين المتعصبين لتزيد الشعوب الإسلامية جمودًا ليزيدها الجمود ضعفا, وجعلت تحمي الجماعات التبشيرية الدينية وتمدها بكل ما تستطيع من قوة وتحاول أن تحطم كل قلم وكل رأس يقف في وجه هؤلاء وأولئك.