ولقد كنت أسمع لزميلي وهو يحدثني معترضا على فكرتي في كثير من الرفق والإشفاق على ما نسميه الحقائق. وبينما كنت أسمع كنت أذكر ما ثار في وجه هذه الفكرة بالذات من اعتراضات عنيفة في بلاد الشرق العربي المختلفة بل في مصر نفسها. ما رميت به هذه الفكرة من مقاصد مستترة لم تجل بخاطري يوم دعوت إليها. فقد اتهمنا بأنها ترمي إلى فصل مصر عن الكتلة العربية حينا وعلى فرض زعامة مصر على الكتلة العربية حينا آخر. وإلى محاربة الفكرة الإسلامية والحضارة الإسلامية تارات. وكنت أذكر كذلك أن العالم الفيلسوف يهوذا تحدث إلي في شأن هذه الفكرة سنة ١٩٢٩، وسألني عما أقصد إليه منها حاسبًا أنني أريد أن تحيا مصر في هذا القرن المسيحي حياة مصر منذ خمسين قرنا مضت، تعيش كما كان الفراعنة يعيشون، تؤمن بما كان الفراعنة يؤمنون، وتفكر كما كان الفراعنة يفكرون، وهم بعد أن تذوقوا الحرية الفكرية والحضارة العلمية لن يستطيع أحد أن يقيد أفكارهم أو يردهم إلى حضارة الخضوع والإذعان.
إنني حين أدعو المصريين إلى هذا إنما أراه واجبًا قوميًا يجب أداؤه في البلاد المختلفة بالدعوة إلى مثله وبتفسير قليل يقنع بأن تطبيق هذه الفكرة في بلاد الشرق العربي يؤدي إلى نتيجة هي خير النتائج، وبودي أن يصل أهل الشام حاضرهم بماضيهم منذ عهد الفينيقيين وإلى أن يصل أهل العراق حاضرهم بماضيهم إلى عهد آشور وبابل.
ليست الدعوة لدراسة تاريخ مصر الفرعونية مقصودًا بها رد التاريخ على أعقابه ليصب في منبعه ولا هي مقصود بها إلى الإعراض عن دراسة تاريخ الشرق في مختلف عصوره.