للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معتمدين كذلك، لا على قلم يدون، وقرطاس يحفظ، بل على قواهم العقلية الطبيعية الذاكرة الحافظة، أقلامهم الوعى والانتباه ودقة السماع والإنصات، وقراطيسهم صفحات الأفئدة والقلوب. ولكن هل كانوا يحفظونه بمجرد سماعه لأول مرة، كأنهم آلات تسجيل؟ ربما كان الأديب يكرره أكثر من مرة، وربما كان السامعون يعاودون تكراره، بعضهم مع بعض، فيكمل كل منهم لزميله ما قد يكون ندَّ عن ذاكرته، أو غاب عنه وعيه، وهكذا حتى يثبت النص، طبق الأصل، كما ورد عن صاحبه، ويصبح كأنما هو مسطر في كتاب. ومن المعروف أن الموهبة تقوى بالممارسة والتدريب، والعادة تصبح طبيعة بالتكرار والاستمرار، ومن ثم نعتقد أنه كان بين الجاهليين قوة في الذاكرة وحدة في الحافظة، بسبب اعتمادهم الكلي عليها، والمداومة على ممارستها لأداء هذه الوظيفة، مدفوعين إلى ذلك بحكم شغفهم الطبعي لحفظ هذه الآثار وصيانتها، وأرهف قوة الذاكرة عندهم عدم شيوع الكتابة بينهم؛ لندرة من يعرفها، ولأن ظروف الحياة عندهم ما كانت تهيئ لهم أوقاتًا يجلسون فيها لتعلم القراءة والكتابة، فالسعي إلى لقمة العيش التي تقيم أودهم، كان يشغلهم عن هذا وأمثاله مما لا يتصل بصميم الحياة في بيئتهم وظروفهم، كما أن أدوات الكتابة كانت الحجارة والجلود والسعف، وأمثالها مما لا يحبب الكثير في مزاولتها. ومن ثم كان الاعتماد الأساسي في حفظ الآثار وتسجيلها يقوم على الذاكرة والترديد الشفهي.

وكان أكثر الناس اهتمامًا بنصوص الأديب أهله وعشيرته؛ ذلك لأنهم كانوا يعتبرون الأديب لسان حالهم: فهو المعبر عما في نفوسهم، والمذيع لأخبارهم، والمسجل لمآثرهم وأمجادهم، تنطلق منه الكلمات فتدوي في الآفاق، وتخترق الفضاء كالسهام، فتنفذ في الأسماع، وتستقر في القلوب. وتتناقلها الأجيال؛ الخلف عن السلف، فتظل عالقة بالأذهان، خالدة خلود الإنسان، فالعشيرة ومعهم الأصدقاء١ كانوا السجل الأصلي لآثار أدبائهم، يحفظونها عن ظهر قلب، ويذيعونها في الآفاق، ويرددونها في كل مكان، ويتلقاها الأبناء عن الآباء في زهو وافتخار، ويتغنون بها في كل زمان، وقد يبلغ بهم عشق النص الأدبي والإعجاب به إلى درجة تلهيهم عن بعض الأعمال، وفي مثل ذلك يقول بعض بني بكر في بني تغلب لكثرة تردادهم قصيدة عمرو بن كلثوم٢:


١ الأغاني ج٢ ص ١٦٥.
٢ الشعر والشعراء ج٢ ص ٦٣٥.

<<  <   >  >>