كثيرًا ما نجد في افتتاحيات القصائد الجاهلية الحديث عن رحلة قبائل الحبيبات، وتركهم ديارًا كانوا يحتلونها إلى ديار أخرى. ولكننا مع ذلك نجد كثيرًا من كتب الأدب والتاريخ والجغرافيا تتحدث عن ديار القبائل عند الكلام على أنسابهم.
ولا شك أن شبه الجزيرة العربية كانت بها مدن وقرى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، فالقوم الذين كانوا يسكنون هذه المدن والقرى كانوا يعيشون فيها عيشة استقرار، حيث كانت موارد الرزق فيها ثابتة ومنتظمة، أما بقية الأماكن يعيش فيها البدو، وهم من القبائل الذين يتصلون بالبادية أشد اتصال، يعتمدون في حياتهم على الحيوانات، فكانوا مضطرين للبحث عن غذاء لما يملكون من ماشية، ولهذا كانوا يتتبعون مواقع الغيث ومنابت الكلأ لينزلوا بها، حيث يجدون هناك ما يفي بحاجتهم وحاجة حيواناتهم من غذاء وماء. ومن ثم شاع الاعتقاد بأن حياة هؤلاء البدو كانت موزعة بين الإقامة والظعن، تبعًا لوجود الكلأ ونفاده، فإقامتهم في المكان كانت لفترة، تنتهي بانتهاء ما فيه من عشب وماء، فإذا نضب معينه حزموا أمتعتهم وشدوا رحالهم إلى مكان آخر لفترة أخرى، وهكذا باستمرار. وكأن افتتاحيات القصائد في الشعر الجاهلي توحي بذلك وتؤيده.
حقيقة أن البدو من طبيعتهم حب الانتقال، ومن ثم قيل إنهم لم يقيموا لهم دورًا ثابتة، وإنما جعلوها سهلة في البناء، خفيفة في الارتحال، لا تحتاج في إقامتها أو اقتلاعها إلى جهد أو عناء ولكنا لا نعتقد أن هذا الارتحال كان يحدث باستمرار، في كل شهر أو كل عام، ربما كان التنقل السريع في بادئ الأمر حينما كانت كل قبيلة تبحث عن مكان ملائم من شتى الوجوه.
فإذا ما عثرت على ضالتها. وتحققت أمنيتها -وربما كان ذلك بعد محاولات كثيرة من الحل والترحال- كانت تتخذ هذا المكان الملائم دارًا لها. ولا نستطيع أن نتصور كل واحدة من هذه القبائل تنزل بالمكان شهرًا أو شهرين، ثم تقلع عنه بحثًا عن آخر لفترة قصيرة وهكذا، كأنما كانت كل البقاع خالية أمامها، تنزلها حيث شاءت، وكأنما لم يكن في البادية قبيلة أخرى سواها تبحث عن مورد رزق لها، وهل يمكن أن تنزل القبيلة مكانًا خاصًا هذا العام فتقيم به