بدأ امرؤ القيس معلقته بالحديث عن ذكريات الحبيبة حينما رأى ما آلت إليه ديارها بعد أن هجرتها، فقد درست آثارها وعفت معالمها، وأصبحت موطنًا للحيوانات، تعيش فيها آمنة مطمئنة، وخيمت عليها الوحشة والرهبة، فأثار ذلك مشاعره، وحرك عواطفه، فطلب من رفيقيه أن يتوقفا معه عن السير ليسترجع ما فات من ذكريات، ويذرف الدمع حزنًا على ما مضى، وتخفيفًا مما يجد، ووفاء بحق هذه الديار:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
وهنا عادت به الذاكرة إلى تلك اللحظة القاسية التي بدأت فيها أحزانه، وذلك حين رأى موكب الحبيبة في صباح مبكر يبدأ رحلة الفراق، وظل هو وحيدًا بين شجيرات ذات أشواك وقد تملكه الحزن والألم، وعلاه الهم والغم، وظهر عليه القلق والاضطراب، وأخذ الدمع ينهمر مدرارًا من عينيه حتى بلّ صدره ومحمله، والبكاء يشفي الإنسان أحيانًا، فما يريقه من عبرات كأنما يغسل آثار الحزن من نفسه، ولكن هل يجدي البكاء عند آثار بالية؟ هل يرجع ما كان من أنس وبهجة؟