الصدق والدقة: وفي الشعر الجاهلي يتجلى بوضوح صدق الشعور، وقوة العاطفة، فما كان الشاعر يقول أبياته أو قصيدته إلا لأنه كان يحس أنه مدفوع بقوة داخلية للتعبير والتصوير، تلك القوة، هي صدق الشعور، وحرارة العاطفة النابعة من نفسه وحسه، فالدافع نفسي وذاتي، وهو قوي؛ لأنه صادق وأصيل، غير دخيل ولا مفتعل، يمثل حقيقة ما يشعر به الشاعر من تلقاء نفسه، بدليل أن السامع، بمجرد أن يسمعه، سرعان ما ينفعل به، ويسري تأثيره في نفسه مسرى الدم في شرايين جسمه، ويبدو عليه أثره في الحال. ولا زلنا نحن الآن، حينما نسمعه، تتحرك عواطفنا بتأثيره، مع طول العهد به. وبعد الشقة بيننا وبينه. واختلاف ظروفنا عن ظروفه التي قيل فيها وهذا دليل على صدق شعور قائليه، ودقة إحساسهم بالنفس الإنسانية، فصوروا مشاعرهم في أشكال صادقة بديعة، تتجاوب معها كل النفوس، في كل العصور، وفي جميع البيئات ومختلف الظروف.
كما أن التصوير دقيق على العموم، فالشاعر، بصفة عامة، يحاول أن يرسم صورة دقيقة لما يتحدث عنه، وبخاصة الأشياء التي كان أكثر اتصالًا بها، فقد أتى في تصويرها على كل جزئياتها، كبيرها وصغيرها، وفي جميع حالاتها، كما نراه واضحًا في صورة الحبيبة، والفرس، والناقة مثلًا. كأنما كان يريد أن ينقل صورة طبق الأصل، وكأنه كان ينحت تمثالًا، ولكن في ألفاظ وأنغام.
وقد مر في الحديث عن المعلقات كثير من الأمثلة للظواهر التي ذكرناها حتى الآن.