سبق أن أشرنا إلى أن العرب الجاهليين أتيحت لهم فرص كثيرة للقول والاحتفال به، والإنصات إليه في وعي وانتباه، والاستمتاع به في شغف واهتمام، فكانت هناك مجالس العشيرة ومجتمعات القبائل على نطاق خاص وعلى نطاق عام، وحلقات المباريات الأدبية، وندوات الأدباء والنقاد، يضاف إلى ذلك خطرات الأديب، وسبحات خياله، وفيض مشاعره حول حياته وأحاسيسه الخاصة، وما هذه الأحوال إلا مصادر الإلهام الأدبي، وروافد سيله وفيضانه، إذ تسبح الخواطر، وتحلق الخيالات، وتتوالى المشاعر، فتفيض المعاني، وتتوارد الصور، ويعمل الحس والذوق، فإذا ما اكتمل الإطار، وتم الإبداع النفسي، انطلقت الألسنة، لتضيف إلى الوجود آثارًا جديدة في عالم الأدب.
ولا نريد أن نبالغ هنا، فندعي -كما قال الكثير عن العرب الجاهليين- أنهم كانوا جميعًا مطبوعين على البلاغة، وكلهم أرباب فصاحة وبيان، فكأنهم كانوا جميعًا شعراء وأدباء، فذلك مما يأباه الواقع؟ فلم يحدث في أمة من الأمم -وإن كان أفرادها كلهم كذلك- كأن حديثهم العادي كان أدبًا، وحاجاتهم اليومية لا تقضى إلا بشعر رائع أو نثر بليغ، إنما نعتقد أنهم كانت فيهم ميول ظاهرة إلى تذوق الأدب والاستمتاع به. كان منهم أفراد منحوا موهبة الأدب، فوجدت منهم طبقة الأدباء الممتازين، شعراء فحول، وناثرون بلغاء، ومحدثون فصحاء، وكان منهم ذواقون للأدب، خبيرون بمواطن حسنه، وأسرار بلاغته، وسماعون للقول الممتاز، يتعشقون سحره، ويطربون لسماعه، ويحلو لهم ترديده وتكراره.
وكان النص الأدبي يلقى شفهيًّا، وربما كان هناك من الأدباء من يدون أثره الأدبي، ولكن يبدو أن ذلك كان قليلًا ونادرًا، نظرًا لشيوع الأمية وعدم معرفة الكتابة بين كثير منهم، وسنشير إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله. ومن ثم كان الجميع تقريبًا يعتمدون على ذاكرتهم في تأليف النص الأدبي وإلقائه، وسماعه وترداده.
فكان الأديب يلقي ما دبجته قريحته معتمدًا على ذاكراته، وجمهوره يتلقى عنه معتمدًا على الحافظة، فيسمعونه، ويرددونه بحكم شغفهم بالأدب، وميلهم لحفظه وصيانته،